جرت العادة أن تتناوب الدول الأعضاء في رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) على رئاستها. وتتأهب كمبوديا، إحدى الدول العشر الأعضاء، لتولى رئاسة الرابطة هذا العام خلفاً لسلطنة بروناي.

وبما أن من يترأس هذا التكتل الآسيوي المهم يتمتع بنفوذ كبير ويمكنه تحديد الأولويات على جدول الأعمال، واستبعاد القضايا التي لا تتفق مع مصالح بلده، وأيضاً إصدار بيانات أحادية في حال عدم اتفاق الأعضاء على موقف موحد في القضايا الحساسة.

فإن مراقبين كثراً يتوقعون أن تكون رئاسة كمبوديا مقدمة لحدوث شرخ عميق في جسد آسيان التي تشكو أصلاً من انقسامات دولها لجهة الموقف من أحداث ميانمار وكيفية التعامل مع سلطتها القمعية منذ انقلابها العسكري في الأول من فبراير 2021.

والحقيقة أن لهذه المخاوف ما يبررها استناداً إلى سوابق معروفة للنظام الكمبودي الحالي وزعيمه اليساري سابقاً «هون سين» الذي يحكم بلاده بقبضة حديدية منذ عام 1979 دون انقطاع.

فعدا عن أنه من مؤيدي الطغمة العسكرية الحاكمة في ميانمار، بدليل مخالفته لقرارات آسيان الهادفة إلى عزل جنرالات ميانمار ومقاطعتهم، والتي تجلت في قبوله الاجتماع مع وزير خارجيتهم «وونا ماونغ لوين» في فنوم بنه الشهر الفائت، فإنه أي «هون سين» حليف وثيق للصين التي تنازع خمساً من دول آسيان السيادة على مجموعة من الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي.

أما أسباب تقربه من بكين، فليست أيديولوجية فقط وإنما أيضاً اقتصادية وعسكرية. إذ تعتمد كمبوديا اعتماداً كبيراً على الهبات الصينية والرعاية الاستراتيجية منذ عقود، ولهذا السبب كثيراً ما لوحظ أن فنوم بنه تتخذ مواقف أقرب لبكين منها إلى شريكاتها في آسيان.

فمثلاً أثناء رئاستها الماضية للرابطة في عام 2012، أفشلت كمبوديا عمدًا عملية إصدار بيان مشترك حول النزاع مع بكين في بحر الصين الجنوبي، في وقت كانت فيه الفلبين تخوض مواجهة بحرية مع الصين حول جزيرة «سكاربودو شول»، وتنتظر موقفاً داعماً لها من شريكاتها.

فكانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ آسيان التي تتصادم فيها مواقف أعضائها. علاوة على هذا، استخدم الزعيم الكمبودي صلاحياته الرئاسية آنذاك فمنع مناقشة بند النزاعات البحرية علانية، الأمر الذي أغضب حكومتي الفلبين وفيتنام، ولم تهدأ الأمور إلا بعد أن قامت إندونيسيا بجهود مكوكية حثيثة لمنع انهيار الرابطة.

وقت حدوث تلك الأزمة، التي يتخوف الكثيرون الآن من تكرارها، كثر الحديث عن جدوى وفاعلية آسيان كقوة للاستقرار الإقليمي، ما جعل إندونيسيا والفلبين تقودان جهوداً مشتركة نحو تحقيق قدر أكبر من التضامن في ملف الأمن البحري.

وحتى بعد مرور سنوات من تلك الواقعة، وقفت كمبوديا بزعامة هون سين موقفاً معارضاً في أروقة آسيان لجهة مناقشة فوز الفلبين في لاهاي بالتحكيم الذي لجأت إليه ضد الصين حول نزاعهما البحري، متخذة موقفاً مشابها لموقف بكين الداعي إلى حل كافة الخلافات والنزاعات عبر الحوار الثنائي، وليس الحوار الجماعي الذي تطالب به دولاً مثل الفلبين وأندونيسيا اللتين تلحان على وضع مدونة للسلوك في بحر الصين الجنوبي.

وهكذا نجد أن الذين يتخوفون من أن تؤدي رئاسة كمبوديا هذه السنة لمنظومة آسيان إلى انقسامات لهم مبرراتهم، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار بعض المؤشرات التي تفيد باحتمال أن توافق فنوم بنه على استضافة قاعدة عسكرية للبحرية الصينية على أراضيها. فإن تحقق ذلك فإن كمبوديا ستصبح أول دولة من دول جنوب شرق آسيا ترتبط عسكرياً بالعملاق الصيني.

وهذا بدوره سوف يشعل فتيل أزمة عميقة لا يمكن رأبها بينها وبين شريكاتها، لاسيما الفلبين وفيتنام، وأيضاً إندونيسيا التي لطالما اشتكت من توغل ومضايقات عشرات السفن الصينية في المنطقة المعروفة بالمنطقة الرمادية داخل بحر ناتونا الشمالي، وقدمت الاحتجاجات الدبلوماسية ونشرت طائراتها المقاتلة وسفنها الحربية للردع.

ومن جهة أخرى فإن، أزمة وانقسامات أخف وطأة قد تنشب في حال صدقت تقارير حول عزم هون سين القيام بأول زيارة لرئيس دولة عضو في آسيان إلى ميانمار منذ انقلاب العسكر في العام الماضي على حكومة «أونغ سان سو كي» المنتخبة ديمقراطياً.

وهذا، بطبيعة الحال ــ إنْ حدث ــ سيكون بمثابة احتقار كمبودي لقرار اتخذته قمة آسيان العام الماضي بمنع التواصل مع جنرالات ميانمار، وتجميد مشاركتهم في اجتماعات الرابطة، إلى أن يُعيدوا السلطة إلى المدنيين.

 

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين