إنهم يكذبون.. بصدق!

ت + ت - الحجم الطبيعي

«هل تستطيع أن تنقل ثلاثة فيلة بسيارتك الصغيرة هذه؟». استغرب صاحبه وظن أن صديقه يسخر منه. أدار ظهره غاضباً ومشى.

ناداه ضاحكاً وقال له: توقف كنت أمزح معك إنها نكتة. بنصف غضب قال له: هات ما عندك، كيف؟ كيف تنقل ثلاثة فيلة بسيارة صغيرة؟ قال: تجلس اثنين في المقعد الخلفي وواحداً بجانبك في المقعد الأمامي.

نظرياً، كلام الرجل صحيح، فالسيارة الصغيرة تتسع لراكبين في الخلف وراكب بجانب السائق. واقعياً، كلامه جنون. وهذا حال العالم الآن. يتحدثون عن السلام ويخوضون الحروب، عن الأمانة ويمارسون الخيانة، عن الدفاع وهم في موقع الهجوم. إنهم يكذبون بصدق، يخونون بأمانة، ينافقون بإخلاص، يقتلون بعضهم بكل إنسانية!

لقد اخترعوا للكذب ألواناً، منه الأسود والأبيض والبرتقالي. أسموا السياسة فن الكذب، والخيانة حداثة، والازدواجية شطارة، والكذب تمثيلاً. سئل بيكاسو يوماً: لماذا لا تذهب إلى المسرح؟ أجاب: لدي نافذة تطل على الشارع وأظنها تكفي، فالكل يمثل!

ما الذي أوصل العالم إلى هذه المرحلة من خلط الأوراق واختراع الأقنعة ليستطيع الواحد أن يمر وسط هذا الزحام من الثنائيات المتناقضة؟

هل هي القيود الاجتماعية، أم التقاليد الصخرية، أم هو الضياع في متاهات الغابة التي «يتقدم» الإنسان إليها على مبدأ الصعود إلى أسفل؟ ربما هو البعد عن الدين وعن الطبيعة والقيم التي فطر الإنسان عليها فشوهتها المفاهيم الخاطئة للحضارات؟

الكذب هو الكذب مهما لوّناه ومهما أسميناه ومهما أضفنا إليه البهارات والصفات. السكوت عن الصدق ومجاراة الكذب والكذابين والمستغلين خطيئة تعادل خطيئة الكذب. ولو أن تلك المرأة «سكتت لما تغير أسلوب حياة الإنجليز. وإليكم قصتها.

في 23 يوليو من صيف عام 1969، ذهبت امرأة بريطانية إلى السوق في لندن لشراء حاجاتها، فوجئت تلك السيدة عندما أرادت شراء السمك، بأن سعره مرتفع بأكثر من 30%، وأن ما تحمله من نقود لا يكفي، فغضبت وقررت الذهاب فوراً إلى مجلس العموم، وكان قريباً منها، توجهت إلى هناك ودخلت مباشرة إلى باب قاعة المجلس أثناء انعقاده وطلبت مقابلة النائب الذي كانت قد انتخبته، حاول الحراس عبثاً إقناعها بأن المجلس في حالة انعقاد، وبإمكانها الانتظار إلى أن يحين وقت الاستراحة، ولكنها أصرّت على مقابلته فوراً، وبدأت بالمناداة على النائب بأعلى صوتها حتى لفتت انتباه رئيس المجلس، وما كان من الرئيس إلّا أن قام من مكانه وتوجّه إليها، وبكل احترام وهدوء وسألها عما تريد، فقالت له إن لديها شكوى عاجلة تريد إيصالها إلى نائبها وكل النواب الآخرين، ودون أن يسألها عن ماهية شكواها قام فوراً باصطحابها، متأبطة ذراعه، إلى منصة المتحدثين وأعطاها الميكروفون وقال لها: تفضلي سيدتي تحدّثي وكل مجلسنا آذان صاغية.

أمسكت المرأة الميكروفون وقالت:

من المعيب ونحن أبناء بريطانيا العظمى، أن نعيش في جزيرة وحولنا البحر، ونملك أساطيل صيد تجوب المحيطات، ولا يمكننا تناول وجبة من السمك لارتفاع سعره. لقد انتخبناكم لتكونوا عوناً لنا على تجّار البلاد الجشعين، والتفتت إلى نائبها وقالت له أنا لم أنتخبك لتقف مع هؤلاء التجار الحمقى الجشعين، قالت كلماتها تلك ورمت الميكروفون وغادرت غاضبة.

أتدرون ما حدث بعد ذلك وفوراً؟

أوّل ردة فعل كانت من النائب الذي وجهت إليه حديثها، فقد قدّم استقالته لرئيس المجلس قبل أن تغادر المرأة المبنى!

وتم سَن قانون في المجلس يُحاسب كل من يرفع سعر السمك أعلى من مدخول أقل شريحة في بريطانيا، ومنذ ذلك اليوم فإن وجبة السمك مع البطاطا تعتبر أرخص وجبة شعبيّة في مطاعم بريطانيا، ولم يطرأ عليها أي ارتفاع إلّا بمقدار نسبة ارتفاع مستوى معيشة البريطانيين اليوم، لذا فإن وجبة السمك مع البطاطا (Fish & Chips) تعتبر وجبة الفقراء لتدنّي سعرها، وأصبحت تباع في مطاعم وحوانيت صغيرة في كل شارع وزاوية من مدن وقرى بريطانيا.

حادثة صدق بسيطة تغير مجرى حياة شعب بكامله، وكذبة ملوّنة تغرق حياة شعب في سواد الفوضى والدماء والانقلابات، تماماً كما يحدث في العديد من دول العالم اليوم.

 

Email