الإدارة والتقدم الحضاري

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كتابه المتميز «رؤيتي: التحديات في سباق التميّز» يؤكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، أن الأزمة العميقة الحقيقية للأمة العربية هي أزمة إدارة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ففي الفصل الرابع من فصول هذا الكتاب الذي يحمل عنوان «الإدارة»، يجهر صاحب السمو بعمق هذه المشكلة قائلاً: أزمة الأمة العربية اليوم ليست أزمة مال أو أزمة رجال، أو أزمة أخلاق، أو أزمة أرض، أو موارد، كل هذا موجود والحمد لله ومعه السوق الاستهلاكية الكبيرة... إنها أزمة إدارة.

ثم يسترسل صاحب السمو الشيخ محمد في الكشف عن الآثار السلبية العميقة لهذه الأزمة الجوهرية حين يقول: لو كانت الإدارة العربية جيدة لكانت السياسة العربية جيدة، لو كانت الإدارة جيدة لكان الاقتصاد جيداً، والتعليم والإعلام والخدمات الحكومية والثقافة والفنون وكل شيء آخر؛ ليخلص من هذا كله إلى أن معضلة الإدارة هي سبب كل مشكلاتنا الحضارية، وأنه ما لم يتم إصلاح جذري لمفهوم الإدارة، وتطوير جميع مستويات الوعي الإداري فسنظل نراوح في مكاننا، جازماً بأن المراوحة في المكان هي أقصر الطرق إلى استمرار التأخر والتخلف.

وإذا كانت منطلقات صاحب السمو في حديثه السابق عن المعضلة الإدارية وما تتركه من آثار سلبية على المسيرة التنموية للدول نابعة من إحساس عميق بالأسف على الوضع الحضاري للأمة بسبب ضمور الحس الإداري في مؤسساتها، فها هو يعود اليوم لمقاربة القضية من منظور مختلف يقوم على دعم الإحساس الإيجابي بالإدارة الناجحة من خلال الحديث عن أسباب التقدم الحقيقية في مسيرة دولة الإمارات عبر الخمسين عاماً الماضية، حيث نشر صاحب السمو ومضة قيادية ضمن وسمه الفاعل «ومضات قيادية» على حسابه في إنستغرام، تحدث فيها عن الأثر العميق للنجاح الإداري على مسيرة الدولة، وكيف أن الرؤية النافذة في العمل الإداري كانت وراء جميع مظاهر التقدم الذي حققته دولة الإمارات العربية المتحدة في مسيرتها التنموية الرائدة.

«أحد أسباب المكانة التي وصلنا إليها في الإمارات هو اهتمامنا بالإدارة، وسعينا الدائم إلى التطوير والتحديث»، في مطلع هذا الحديث يؤكد صاحب السمو أن مسيرة الإمارات التنموية الناجحة لم تكن وليدة الصدفة، ولا ثمرة للأحلام والأمنيات، بل كانت نتيجة طبيعية للاهتمام المدروس بالتفكير الإداري الذي هو من سمات الحضارة الحديثة التي تتميز بعمق تفكيرها الإداري وقدراتها الباهرة على التنظيم، فعلى الرغم من حداثة عمر الدولة، إلا أنها سرعان ما وضعت نصب عينيها وضع خطة شاملة لتطوير الحياة في جميع مساراتها، ولن يتم تحقيق ذلك دون نقلة نوعية في التفكير الإداري مع السعي الحثيث الدائم لمزيد من التطوير والتحديث باعتبار ذلك صمام الأمان الضامن لديمومة النمو الإداري في جميع مرافق الدولة، لأن هناك علاقة وثيقة جداً بين التطوير وبين التقدم الإداري، فالتطوير هو الدافع القوي للمنظومة الإدارية لكي تظل مواكبة لإيقاع العصر، وفي اللحظة التي ترتخي فيها القبضة عن التطوير والتحديث يتسلل الترهل والروتين إلى القيم الإدارية، وتفقد المؤسسات حيويتها، وتدخل في مدار التقليد الذي هو عدو الإبداع، وهو ما حذر منه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بقوله: الروتين عدو الريادة، ونحن في بداية سباق طويل في اتجاه الريادة، ويتطلب تحقيق هذا الهدف الابتعاد عن الممارسات الروتينية والتفكير دائماً بطريقة إبداعية.

مؤكداً أن هناك ثلاثية متلازمة هي المسؤولة عن صقل الحس الإداري لدى فرق العمل هي: العمل والتجربة والالتزام، فمن أراد أن ينخرط في تحقيق قيمة الريادة فعليه الالتزام بهذه القيم الثلاث التي هي جزء أصيل من بنية العقل الإداري الحديث.

«إن الإنجازات التي نحققها ليست لنا فقط، إنما هي لإخواننا العرب أيضاً». وهذا الذي يقوله صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد ليس بغريب على دولة الإمارات العربية المتحدة التي اختارت منذ نشأتها عمق الانتماء إلى جذرها العربي، حين جعلت كلمة «العربية» جزءاً من هويتها الذاتية، فهي ممدودة اليدين بالمودة والعطاء ومشاركة الأشقاء كل مظاهر الحياة، وإذا كان سياق الكلام في هذه الومضة يتحدث عن الإنجاز في سياقه الإيجابي، فإن صاحب السمو أيضاً حين يتحدث عن الأوجاع الكبرى للأمة لا يتحدث عن وجع الإمارات وحدها، بل تراه يتمنى الرفعة والتقدم لجميع الشعوب العربية ويتألم لما وصلت إليه أحوال بعض الدول الشقيقة من النزاعات والصراعات الداخلية التي ستكون ثمرتها مزيداً من التأخر والتخلف عن ركب الأمم المتحضرة، وفي هذه الومضة اللامعة يؤكد عمق التلاحم بين الأشقاء العرب حين يجعل كل إنجاز وطني إنجازاً للعرب من المحيط إلى الخليج.

«لا بدّ أننا نشتغل ونوصل إلى أهداف بعيدة، يجب علينا أن لا ننتظر المستقبل، أن نصنع المستقبل من اليوم»، وبهذه النبرة الجازمة يؤكد صاحب السمو أن جميع ما تم إنجازه ليس هو نهاية المطاف، بل ما زالت الطريق طويلة في مسيرة تحقيق الأهداف البعيدة مما يقتضي بذل المزيد من الجهود التي ستحقق هذه الأهداف التي سترسم ملامح المستقبل القادم الذي يجب علينا أن نصنعه نحن بوعينا وتخطيطنا واستشرافنا للآفاق البعيدة، فالمستقبل لا ينتظر أحداً، بل واجب الإنسان هو السعي الحثيث نحو مستقبله الذي يستطيع رسم ملامحه وطبيعته من خلال التفكير العميق، واستثمار الزمن والإنسان في بناء الذات الحضارية والوطن الزاهر الجميل.

Email