يتحدث الفيلسوف الألماني الأشهر هيجل عن مكر التاريخ، بمعنى أن للتاريخ صيرورة تتعدى إرادة الأفراد، بل إن التاريخ يمكر بمن يقف عائقاً أمام إراداته وغاياته. وما حصل في الأسابيع الماضية من وفاة لوسيا هيريارت، أرملة الدكتاتور الشهير أوغستو بينوشيه التي طالما وقفت هي وزوجها في وجه صعود اليسار التشيلي، بل والتنكيل بأنصاره، وفوز اليسار التشيلي بأصغر مرشح للرئاسة في تاريخ البلاد ليصبح رئيساً لها، إلا إحدى تجليات مكر التاريخ الهيجلي!

وتعود قصة بينوشيه إلى القرن الماضي، ففي العام 1970 فاز مرشح اليسار سلفادور أليندي بالرئاسة بأغلبية بسيطة، وحين تسلم الحكم في تشيلي قام الرئيس الجديد بإصلاحات اشتراكية لتأميم الشركات الكبرى، وهو ما أعلن عنه في برنامجه الانتخابي أو ما سماه «السبيل التشيلي للاشتراكية»، ومعناه أن السبيل إلى الاشتراكية يمر عبر الليبرالية السياسية وصندوق الاقتراع، كما سعى أليندي إلى تحسين مستوى الطبقات العاملة والمتوسطة وتحسين ظروف العمل بوجه عام والإصلاح الزراعي، وتوفير الغداء للمعوزين.

وقد أوقعت هذه السياسات الرئيس في تصادم مع مصالح قوى عدة داخلية وخارجية. فكان اليمين المحافظ معادياً للسياسات الاشتراكية وحريصاً على المحافظة على القطاع الخاص وامتيازاته الجمة. كما أن الولايات المتحدة نظرت بريبة لتأميم شركات أمريكية لها مصالح اقتصادية في تشيلي. وما كانت تتقبل نظاماً اشتراكياً في حظيرتها الخلفية والتي طالما سعت منذ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في أوائل القرن التاسع عشر ومبدأه بعدم السماح لأي وجود أجنبي أوروبي في أمريكا اللاتينية.

وأصبح الرئيس الجديد في تشيلي الشغل الشاغل لإدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وحينها مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر. وشرعت الولايات المتحدة باتباع طريقتين لهزيمة توجه الحكومة الجديدة في سانتياغو. وضغطت إدارة نيكسون دبلوماسياً واقتصادياً على تشيلي. وفي نفس الوقت لجأت واشنطن إلى طريقة ثانية وهي المؤامرة للإطاحة بالرئيس أليندي.

وفعلاً استطاعت الولايات المتحدة وبإشراف مباشر من البيت الأبيض ومستشار الأمن القومي، ومن ثم وزير الخارجية، كيسنجر، لتدبير الانقلاب بالاتفاق مع ضباط الجيش. ولما كان القائد العام للجيش التشيلي، رينه شنايدر، يعارض تدخل الجيش في السياسة ويتشبث بالدستور، وجب التخلص منه. وبالفعل وبمؤامرة بين ضباط الجيش التشيلي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، اغتيل القائد العام للجيش قبل تولي أليندي زمام الأمور.

وفي الحادي عشر من سبتمبر 1973، نفذ الجنرال أوغستو بينوشيه انقلاباً عسكرياً بدعم من الـ(سي آي إيه) قتل خلالها الرئيس أليندي. ودخلت البلاد في حكم عسكري تحت قيادة بينوشيه، وقام الزعيم الجديد بحملة قمع وقتل للمعارضين السياسيين، خاصة من اليسار. وقد قتل ما يزيد على ثلاثة آلاف من المعارضين، واعتقل ما يربو على ثمانين ألفاً، وضيق النظام العسكري من الحريات السياسية والمدنية والحقوق الديمقراطية حتى أضحت تشيلي العنوان الأبرز لانتهاكات حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية.

وعمد بينوشيه إلى عكس السياسات الاشتراكية في البلاد، وتحت تأثير خبراء الاقتصاد من مدرسة شيكاغو، أعاد النظام العسكري هيكلة الاقتصاد من اقتصاد موجه من قبل الدولة إلى اقتصاد حر، وحررت السياسات الجديدة الاقتصاد ورفعت القيود الجمركية وخصخصت الشركات المملوكة للدولة وحلت النقابات وإلى ما هناك من مجالات لتخفيف قبضة الحكومة على الاقتصاد.

وبعد حكم استمر 17 عاماً (1973 - 1990)، غادر بينوشيه منصبه بعد أن أمن نفسه من أي ملاحقة قانونية لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أثناء حكمه. وقد عين نفسه عضواً في مجلس الشيوخ مدى الحياة للحيلولة دون معاقبته قانونياً، إلا أنه في رحلة إلى بريطانيا في 1998، أوقف الرئيس السابق بتهمة انتهاك حقوق الإنسان والقتل والإرهاب. وقد وافق مجلس اللوردات في محاكمته لبينوشيه على تسليم الأخير للسلطات الإسبانية لمواجهة تهم متعددة، إلا أن السلطات البريطانية منعت التسليم وغادر بينوشيه إلى تشيلي بعد توقيفه لمدة سنة تقريباً.

وقد رفعت عنه الحصانة في تشيلي وواجه محاكمات طوال بقية حياته حتى 10 ديسمبر 2006 حين فارق الحياة عن عمر ناهز 91 عاماً، وكانت لوسيا هيريارت المرأة القوية في النظام العسكري، والتي واجهت محاكمات هي الأخرى بسبب تورطها في فضائح مالية.

وقد توفيت لوسيا هيريارت في 16 ديسمبر الماضي، عن عمر بلغ 98 عاماً، قبل وصول اليسار التشيلي إلى سدة الرئاسة بثلاثة أيام. وهو التوجه الذي طالما حارباه، بينوشيه وعقيلته، لردح من الزمن. ويقول بينوشيه في مذكراته إن زوجته لوسيا شجعته على المشاركة في الانقلاب ضد أليندي. وكانت لوسيا قوة لا يستهان بها في القصر الرئاسي إبان حكم بعلها.

وقد حقق جابرييل بوريك البالغ 35 عاماً فوزاً بفارق عشر نقاط على غريمه اليميني خوسيه أنطونيو كاست، المدافع عن إرث بينوشيه في نفس شهر وفاة بينوشيه وزوجته. وقد غرد بوريك بعد وفاة الأخيرة، بأن لوسيا هيريارت ماتت محصنة من العقاب رغم تسببها بالآلام والفتن للبلاد. انتصر اليسار ولكن كيف سيحكم تشيلي. وهل البلاد ستدخل دراما جديدة؟ سؤال سيؤرق التشيليين لوقت ما.