هل حب النشاط شرط للإبداع فيه ؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

سؤال عميق، ذو بعد نفسي، يطرحه عنوان المقال. في تصورنا الإجابة عن السؤال تقتضي منا الجزم بنعم؛ على اعتبار أن الإنسان مبدع فيما يحبه ويميل إليه. أي أن حب النشاط شرط للإبداع فيه، فمن غير المتوقع أن نجد إنساناً مبدعاً في نشاط لا يحبه، ولا يميل إليه نفسياً. هنا ينبغي التمييز بين فرد يؤدي عملاً بالحد الأدنى من الكفاءة، بشكل يبعده عن التقصير، ولا يعرضه للمساءلة، وفرد آخر يؤدي عمله بمستوى عالٍ من الإبداع، بشكل يجعله مميزاً.

بعد هذا التقديم، لا بد أن نعرف ما هو الإبداع. بعيداً عن التعريفات العلمية والطروحات الأكاديمية ذات العلاقة بالإبداع، والتي تزخر بها الكتب والبحوث والدراسات المتخصصة، يمكننا القول بأن الإبداع يعبر في جوهره عن نمط تفكير يستهدف واحداً أو أكثر من مجموعة عمليات أساسية، مثل: التجديد، التطوير، التحديث، الإصلاح، الإضافة، التعديل. علماً بأن الإبداع يعتمد بشكل أساس على تفعيل القدرة على تخيل أفكار استثنائية، وعندما تبصر تلك الأفكار النور، ويتم تطبيقها في عالم الواقع، تصبح ابتكاراً. أي أن مفهوم الإبداع يرتبط بتوليد الأفكار، أما الابتكار فيتعلق بالترجمة الواقعية للأفكار الإبداعية.

بالعودة إلى السؤال المطروح في عنوان المقال، يمكننا القول بأن حقيقة كون حب النشاط شرطاً للإبداع فيه، يمكن استثمارها بشكل إيجابي على 3 مستويات، سيتم توضيحها على النحو الآتي:

أولاً: المستوى العائلي والتربوي، من المهم جداً أن يجتهد أولياء الأمور في محاولة اكتشاف ميول وتوجهات أطفالهم، ومن ثم السعي نحو دعم تلك التوجهات، وتحفيز الأطفال على تنميتها وتطويرها في حدود الممكن. الإشكالية في هذا المقام، إن بعض أولياء الأمور يقومون بتوجيه أطفالهم نحو علوم وتخصصات لا يحبونها، بل تكون محبوبة من قبل الوالدين أنفسهم. في تقديري، هذا السلوك إجمالاً غير صحيح؛ لأنه يلغي شخصية الطفل، ولا يقيم وزناً لتوجهاته وأفكاره الخاصة. نحن هنا، لا نستهدف دفع أولياء الأمور للتوقف عن توجيه أطفالهم، ولكن ينبغي تأطير ذلك التوجيه في حدود رغبات الأطفال وقدراتهم.

ثانياً: المستوى التعليمي والأكاديمي، المستوى الآخر يتعلق بطبيعة مناهج التعليم التي يذاكرها الفرد في المراحل الدراسية المختلفة، بدءاً من المرحلة الابتدائية، وما يعقبها من مراحل متقدمة، وصولاً إلى المرحلة الجامعية. من المهم أن يتم التركيز في هذه المناهج على تنمية مهارات التفكير، وفي مقدمتها نمط التفكير الإبداعي، مع وجوب الابتعاد عن مناهج التعليم التلقينية التي تحشو ذهن المتعلم بكمية كبيرة من المعلومات، من دون أن يعرف الفرد المتلقي لها كيفية توظيف تلك المعلومات بصورة إيجابية. لذلك فإننا نعتقد أنه من العبث إنفاق الوقت والجهد والمال على مناهج تعليمية لا تسهم في تشجيع الفرد على التفكير والتأمل والتخيل.

ثالثاً: المستوى المؤسسي والإداري، عالمنا المعاصر يمكن اعتباره عالم مؤسسات، إذ إن الدول الرصينة تشتمل على أصناف كثيرة ومتعددة من المؤسسات والهيئات الحكومية والخاصة، التي تعمل على إشباع حاجات أفراد المجتمع في مفاصل الحياة المختلفة. هذه المؤسسات ينبغي عليها تمكين الموظفين والعاملين فيها، وتشجيعهم على ممارسة التفكير الإبداعي؛ على اعتبار أن الإبداع هو السبيل الأنسب لدعم مسيرة التحسين المستمر في الخدمات والمنتجات التي تقدمها المؤسسات للبيئة المحيطة. من دون التفكير الإبداعي، ستدخل المؤسسات نفق الروتين والرتابة في العمل، وستعمل على تكرار نفسها، ولن تتمكن بالتالي من مواكبة التغيرات العالمية المتلاحقة. في هذا الشأن يتحمل شاغلو المراكز القيادية والوظائف الإشرافية المسؤولية الأساسية في جعل المؤسسات تربة خصبة لنمو الأفكار الإبداعية القابلة للتطبيق.

ختاماً نقول.. إن المستويات الـ 3 التي ورد ذكرها في هذا المقال، ينبغي أن تشجع المعنيين على السعي نحو اكتشاف التوجهات التي يحبها الأفراد، والعمل على تعزيزها في نفوسهم؛ من أجل تحفيزهم لتطوير معارفهم وتحسين مهاراتهم في المجالات التي يحبونها ويميلون إليها، تمهيداً لاستثمارها بشكل منتج في مجال التفكير الإبداعي والقدرة على الابتكار.

 

Email