ابتلي العالم بجائحة لم يسبق لها مثيل في ذاكرة معظم سكان المعمورة. تحدثنا الكتب عن جائحة الأنفلونزا التي أصابت العالم مع نهاية الحرب العظمى في 1918. لربما هناك أفراد، امتد بهم العمر، ما زالوا يتذكرون ما حصل في ذلك الوباء. والحقيقة أن الجائحة نبهت العالم إلى أن قضية الأمن الصحي والأمن الغذائي من أولى أولويات الأمن الوطني.

هذه الحقيقة تراها متجلية في عدد ضحايا جائحة كورونا في الولايات المتحدة، التي تعدت عدد القتلى في كل حروبها الخارجية، ولكن إذا ما قارنا الاستثمار في العتاد الحربي بالمقارنة مع الاستثمار في مجال الصحة فإن الفارق كبير لصالح الأول.

وقد شاركت في عدة ندوات خلال الأسابيع الماضية، والتي تناقش الأحوال الأمنية في المنطقة بعد انجلاء هذا الوباء العظيم. وبداية كان اللقاء السنوي لمركز الإمارات للسياسات في أبوظبي في نوفمبر الماضي، تحت عنوان «عالم ما بعد الجائحة». حضر اللقاء، كالعادة، لفيف من الخبراء والمسؤولين لمناقشة قضايا العالم ورؤاهم لعالم ما بعد الجائحة. وقد غطت الندوة ومداخلات المتحدثين مواضيع متنوعة تتعلق بالتكنولوجيا والاقتصاد والتفاؤل الحذر لمستقبل المنطقة لجهة التواصل بين الجيران. وتضمن نشاط المؤتمر نقاشاً حول الاتفاق الإبراهيمي وما سيتمخض عنه من سلام مأمول للمنطقة عموماً. وناقشت الجلسة الأخيرة موضوع أفول الإسلام السياسي.

وعلى نفس المنوال كان هناك لقاء في مسقط حول المستجدات السياسية في المنطقة. واحتلت الجائحة مكانة في النقاش بما فرضته على التحولات الجارية في الإقليم. ولكن النقاش شمل التحركات الإقليمية والنشاط الدبلوماسي الحثيث للخروج من المنطقة وهي متعافية صحياً واقتصادياً. ولا شك أن هناك مردوداً سياسياً لمجمل هذه التحركات الإيجابية في المنطقة، فالتواصل بين الأشقاء الخليجيين يعزز من اللحمة بين دول المنطقة، ويعزز من استقرار المنطقة.

وكذلك النشاط الدبلوماسي مع دول الجوار يزيد من درجة التعاون ويعزز من فرص السلام الإقليمي، الذي تنشده كافة الأطراف، فعلاقة دول الخليج مع محيطها الإقليمي، سواء كانت إيران أم تركيا، فإنها خطوات إيجابية. والمنطقة فيها فرص اقتصادية كبيرة إذا ما اتجهت نحو العلاقات المستقرة ونبذت التوتر فيما بينها.

والمنطقة تتميز بسكانها الشباب والباحثين عن فرص لحياة أفضل. وتستطيع الدول أن تستثمر في العنصر البشري والتكنولوجيا واقتصاد المعرفة لتحسين ظروف هذه الفئة العمرية المتحفزة دائماً. وإذا لم يتم توظيف هذه الطاقات الكامنة باتجاه إيجابي، فإن عواقب الإهمال ستكون كبيرة على بلدان المنطقة.

وفي سياق الموضوع، ناقشت الندوة المقاربات المختلفة لدول المنطقة فيما يتعلق بمواجهة الجائحة. وعلى ما يبدو أن كثيراً من دول الخليج العربية كانت أكثر استعداداً للجائحة، وقد استثمرت هذه الدول في البنية الصحية لبلدانها، كما أنها استقطبت وأهلت الكوادر الصحية للرعاية الصحية عموماً، أو مواجهة أي طوارئ في المستقبل. وقد أفادت هذه الاستثمارات في الحد من الجائحة وآثارها. وبادرت هذه الدول في عملية التطعيم المبكر، فسبقت في ذلك كثيراً من الدول المتقدمة.

وأخيراً وليس آخراً، اللقاء الذي عقد في دبي في ديسمبر، حول إجراءات بناء الثقة والأمن بين الأطراف المتنازعة. وكانت النقاشات حول ما هي أنجع الطرق لتخفيف التوتر بين الدول، خاصة في حالة حصول حوادث في البحر والبر، وإجراءات احتواء الأزمة في مكانها لتفادي التصعيد. وناقش الاجتماع سعي دولة الإمارات العربية المتحدة إلى بث روح التسامح في المجتمع وتجريم ما من شأنه أن يؤدي إلى ازدراء الأديان والمعتقدات والانتماءات العرقية والأثنية. كما أن الإمارات تروم نشر السلام في المنطقة عبر الحوار والدبلوماسية والتأثير الإيجابي بين الدول عبر التعاون.

وقد عقد في أبوظبي مؤخراً اجتماع منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، تمحور حول المواطنة، وهي من المساعي التي تقوم بها الدولة للتقريب بين الأديان والمجتمعات لنبذ التطرف والكراهية في العالم. وهذا غيض من فيض فيما يعقد من منتديات واجتماعات وندوات لتحقيق الأمن والسلم والاستقرار في منطقتنا.

 

* كاتب وأكاديمي