اقتصاد الوجدان وصناعة الإبداع

ت + ت - الحجم الطبيعي

فى الدراسات الاستراتيجية علم يسمى، حساب القوة الشاملة للدولة، وفقاً للنظريات الكلاسيكية في هذا الصدد كان يتم احتساب القوة الشاملة على أساس حاصل جمع عناصرها من قدرات عسكرية واقتصادية ودبلوماسية وسياسية، مع ما يسمى بالكتلة الحرجة، أي مساحة أرض الدولة وموقعها وتعداد سكانها، وخصائصها الديموغرافية.

وفى مطلع العقد الأخير من القرن الماضي برزت أهمية إضافة قدرة أخرى إلى عناصر القوة الشاملة للدولة، هي القوة الناعمة، وهذا المفهوم جاء في عنوان كتاب صدر عام 1990 للبروفيسور جوزيف ناي الأستاذ بجامعة «هارفارد»، ويعني القوة الروحية والمعنوية للدولة، من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ في مجالات أهمها الثقافة من فنون وآداب.

وجرى تداول مصطلح القوة الناعمة للدولة فيما بعد على نطاق واسع، من حيث العائد المعنوي في الارتقاء بالذائقة العامة لشعبها والتأثير على وجدان الشعوب الأخرى، وأيضاً العائد الاقتصادي من خلال الصناعات الإبداعية، التي تقوم على الفنون والآداب والنشر.

دون مبالغة، تحظى الأمة العربية بقوة ناعمة عالية المقام، لها إسهام معتبر في الحضارة الإنسانية، من شعر ونثر وقصة ورواية ومسرحية، ومن موسيقى وغناء وسينما ودراما، ومن لغة هي لغة القرآن، الذي يلتف حوله المسلمون في شتى بقاع الأرض، ومن آثار هي أغلى كنوز الحضارات الإنسانية.

ولكن اقتصادها الوجداني - متمثلاً في صناعات الإبداع، وعائد صادراتها من تلك الصناعات ـ غير مؤثر على مجمل اقتصاداتها، ولا يكاد يمثل شيئاً بالنظر إلى دول العالم الكبرى، بل إن دولاً صغرى يكاد لا يكون لها تأثير على الثقافة العالمية تحقق من صناعة الإبداع عائدات اقتصادية أعلى بكثير من مجمل دول أمتنا العربية.

إذا نظرنا إلى الأرقام فسنجد إجمالي الإنتاج السنوي للدول العربية من النفط يبلغ قيمته 412 مليار دولار، بينما العائد السنوي للولايات المتحدة من الصناعات الإبداعية وحدها يصل إلى 920 مليار دولار، علماً بأن تلك الصناعات لا تمثل أكثر من 4.2% من الناتج المحلي الأمريكي.

في بريطانيا تسهم الصناعات الإبداعية في الاقتصاد بمبلغ 112 مليار جنيه استرليني، أما أستراليا التي لا يتخطى عدد سكانها 25 مليون نسمة فإن إنتاجها من الفنون والآداب يبلغ 25 مليار دولار.

فى وطننا العربي لا توجد إحصاءات واضحة محددة عن حجم الصناعات الإبداعية، غير أن هناك تقديرات تشير إلى أنها تصل إلى 21 مليار دولار سنوياً، وهو رقم مبالغ فيه لأنه يضيف صناعات أخرى، لا علاقة لها بالوجدان، كصناعة الأثاث وغيرها، إلى العائد من صناعة الفنون والآداب.

ومن الغريب أن الدول العربية التي عرفت المطبعة منذ أكثر من 220 عاماً، وعرفت الصحافة منذ مائتي عام، تعاني من أزمة في صناعة النشر، لا تتفق مع غزارة الإنتاج الأدبي العربي، أما الأكثر غرابة فهو أن الأمة العربية التي عرفت الإنتاج السينمائي منذ 120 عاماً، لا توجد بها مدينة للسينما على غرار ستديوهات يونيفرسال في لوس أنجليس.

بينما الموجود لا يزيد على مجمعات للإنتاج الدرامي من المسلسلات وستوديوهات البث التلفزيوني، بل إن عدد الأفلام السينمائية المنتجة في مصرـ وهى الدولة الأكثر غزارة في الإنتاج ـ بلغ 33 فيلماً في عام 2019، أي أقل من نصف ما أنتجته السينما المصرية في عام 1946، أي منذ 76 عاماً مضت!

لعل حل أزمة الاقتصاد الوجداني العربي من وجهة نظري يبدأ من عقد مؤتمر جامع لصناع الإبداع العربي من نشر وآداب وفنون، يناقش كيفية النهوض في تلك الصناعة، التي تعتمد على رأس المال الفكري والتغلب على أهم مشكلاتها وهي سبل حماية الملكية الفكرية، والحد من القرصنة على الإنتاج الإبداعي.

* كاتب صحافي

 

Email