أربعة أيام عمل

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان البشر قديماً يعملون «سبعة أيام في الأسبوع»، منذ ساعات الصباح الباكر، ثم يرتاحون بعد زوال الشمس، أو بعد مغيبها على أبعد تقدير، اعتبارات مرتبطة بغياب الكهرباء، ولبدائية الصناعات، ومحدودية حجم الزراعة والتجارة عموماً.

ثم سرعان ما تسارع هدير الآلات في أوج الثورة الصناعية، التي انطلقت من بريطانيا العظمي، واتسعت فكرة العمل بنظام «الزامين» أو «الورديتين»، بعبارة أخرى، استمر هدير المكائن لنحو 24 ساعة لتعظيم الإنتاجية.

وكما هو الحال، عندما تستعر المنافسة، تبدأ الشركات بالبحث عن كل وسيلة ممكنة لرفع منسوب الإنتاجية، فتزايدت حمى تنظيم الوقت ورفع الإنتاجية. وبدأت الأدبيات الإدارية تتفنن بذلك، في مسعى لبلوغ الصدارة في كل قطاع.

وعندما كانت المنافسة الضارية تأتي من الغرب، صارت تأتي الآن من أقصى الشرق، كالعملاق الصيني، والنمور الآسيوية الأخرى، وبرز في الخليج، بعد ريادة الكويت في التجارة لعقود طويلة، نجم الإمارات، ودبي تحديداً، وذلك في ميادين التجارة.

إذ تحاول أن تزيد من تنافسيتها، كدولة إقليمية تسعى لتحقيق أهداف كبرى، تتطلب جهداً كبيراً. أحدها فكرة «الاحتفال بتصدير آخر برميل نفط»، في أقل من 50 عاماً، كما ذكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد. كل ذلك جعل المتلقي يصاب بالدهشة والتساؤل، كيف لدولة بهذه الجدية في اللحاق بركب التقدم، تقرر تقليل ساعات العمل.

ولذا، عادت إلى مانشتيات الصحف «فكرة» تقليل ساعات العمل إلى أربعة أيام في الأسبوع، بعد تناقل وكالات الأنباء العالمية، خبر قرار دولة الإمارات، البدء بتقليل ساعات العمل إلى أربعة أيام ونصف، اعتباراً من أول يناير 2022. ويعد بلا شك هذا القرار جريئاً، وفي بلد بحجم ونشاط ورؤية الإمارات. وحسب معلوماتي، فإن القرار قد أشبع دراسة وتمحيصاً، ثم تبين أنه «يزيد من تنافسية الدولة الاقتصادية»، كما ذكر البيان الرسمي.

أرى أن الموضوع مرتبط بدراسة جدوى ذلك، وقد تم من جميع الجوانب. يبقى برأيي الجانب النفسي، وأرى أن إقدام البلدان على تقليل ساعات الإنتاجية، يصاحبه تردد أو خوف نفسي، لا أكثر ولا أقل. وهي المشاعر نفسها التي صاحبت دول المنطقة، عندما أقدمت على إعلان السبت يوم إجازة. ثم استمرت المؤسسات تنتج بشكل طبيعي.

وبعد أن خاضت الشعوب تجربة العمل عن بعد، في ظل جائحة فيروس «كورونا»، الذي اجتاح الكرة الأرضية، وشل حركة الطائرات والسيارات والقطارات، وجد المسؤولون أنفسهم أمام إمكانية عمل قطاع هائل من البشر عن بعد. ليس مطلوباً منهم «التسمر» في مكاتبهم يومياً، لتأدية أعمال روتينية تقليدية. كل ما يحتاجونه، شاشة حاسوب متنقل.

وقد صدرت إحدى الصحف العربية العريقة، لأكثر من عام، عن بعد، وهي في أبهى صورها، وربما لا يعلم كثير من القراء ذلك. إذن، هناك وظائف يمكن أن تعمل عن بعد، وربما بساعات عمل أقل.

غير أن النقطة الأهم على الإطلاق، أن يصاحب تقليل ساعات العمل، نظام عادل في التقييم، بل نقلة نوعية تقلص المحسوبية، والاتكالية، وقلة الإنتاجية إلى أدنى مستوياتها. هنا، نستطيع أن نستمتع بثمار العطلة الأسبوعية مع الأسرة، وتجديد نشاطنا، واكتساب مهارات جديدة، وتوطيد علاقاتنا، والتأمل في مسارنا المهني، ونوعية الأخطاء التي نرتكبها.

فقد أثبتت العديد من الدراسات، أن الضغوطات اليومية الخانقة، تحجب عن المرء مقدرته على الإنتاجية وتأمل أخطائه. فإذا ما استمر الإنسان يمارس الأخطاء نفسها، فإن النتائج المخيبة للآمال ستتكرر، ما لم نُعِد النظر في أخطائنا. وهذه النظرة لا تحدث إلا في أوقات الهدوء والاسترخاء، بعيداً عن أجواء العمل الصاخبة.

في الختام، نهنئ الإمارات على هذه الخطوة الريادية، وقد كان لها سبق إقرار إجازة السبت، كأول دولة خليجية. وهي امتداد لتجارب تستحق التأمل، مثل إسكتلندا، التي تحاول التجربة عبر استفتاء شعبي لمؤسسة IPPR، أظهرت نتائجه أن 83 في المئة، يرغبون في تقليل ساعات العمل.

* كاتب كويتي متخصص في الإدارة

 

Email