زايد وراشد الكبار الحاضرون

ت + ت - الحجم الطبيعي

سعيدةٌ هي الدولة التي يروي قصّتها فارس من فرسانها ممّن شهد لحظات إشراقتها على الحياة، وممّن تحتفظ ذاكرتهم بأدق التفاصيل التي ستكون مُلهمة للأجيال القادمة، ودولة الإمارات العربية المتحدة واحدة من هذه الدول حين كانت محظوظة بالراوية الذي يحتفظ بتفاصيل الحكاية، ولا يكتفي بمجرد سردها بل لا بدّ من إضفاء الصبغة الأدبية عليها بحكم موهبته الشعرية، وها هو صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، قد أخذ على عاتقه منذ أمدٍ ليس بالقصير كتابة تاريخ الوطن بحروف من حبٍّ ووفاء وفخر واعتزاز، بحيث يغرس في الوجدان الوطني كل القِيَم النبيلة التي تستحقها الإمارات كوطن نُحبّه ونفتخر به، ليكون صاحب السموّ هو ضميرَ الوطن وراسمَ لوحته الزاهية، وناقِشَ أمجاده على صخرة التاريخ الخالدة، فطوبى للوطن بهذا الفارس الذي تفرّس فيه القادة المؤسسون كل معالم الفروسية حين نظروا إلى هذا الفتى المهيوب الذي يتدفّق حُبّاً للوطن، ورغبة جامحة في إعلاء شأنه، حين كانت سنّه طريّة خضراء في مقتبل العمر، فقلّدوه من المسؤوليات الجسام ما جعل منه سيف الدولة الذي لا تنبو ضريبتُه، ولا يخيب فأله، ولا تنتكس له راية، ولا تتقاصر له غاية.

اليوم وفي غمرة احتفالات الوطن بالعيد الخمسين لنشأة الدولة، يلتفت صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد إلى الوراء، إلى تلك اللحظات الحاسمة في مسيرة الاتحاد، ويقصّ علينا نمطاً فريداً من الإخاء الذي جمع بين البانيين الكبيرين المغفور لهما: الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، اللذين سعيا السعي الحثيث في سبيل إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة في ظروف إقليمية عاصفة كانت ملامحها تشهد انقسامات بين أجزاء الدولة الواحدة، فجاء هذان الشيخان الكبيران، وصمّما على تقديم النموذج الأرقى في الوحدة الوطنية من خلال توحيد الإمارات السبع التي كانت منفصلة عن بعضها بعضاً، فتمّ على يديهما إنجاز الحلم الأكبر، وظهرت دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الوجود، وكَتبتْ قصتها بحروف من مجدٍ ونور.

ضمن وسم «ومضات قيادية» نشر صاحب السموّ حديثاً على حسابه في إنستغرام تحدّث فيه من أعماق القلب عن تلك اللحظات الرائعة في عمر الدولة، لحظة التأسيس الكبرى وكيف تجلّت الأخلاق الإنسانيّة الفاضلة في مواقف اثنين هما من خيرة رجال الزمن، وكانا بحقّ رجُلَيْ المرحلة بكل ما تشتمل عليه هذه العبارة من مواقف ومسؤوليات وتبعات، حيث قصّ صاحب السموّ ما حصل في الاجتماع الأخير قبل إعلان الاتحاد، وكيف أنّ المحبة الصافية بين الشيخين الجليلين: زايد وراشد كانت هي الأساس الراسخ الذي تأسست عليه الدولة، فلا السيف ولا المال كانا قادرين على جمع القلوب، لكنّ المشاعر الصافية والنيات الصادقة كانت تفعل فعلها في تلك المرحلة الحاسمة من عمر الدولة الوليدة.

«اللي حصل في هذاك الاجتماع ما كان حد متوقع أبدا، سمعنا راشد يقول لزايد: على بركة الله؛ وأنت الرئيس، فقال له زايد: على بركة الله؛ وضعنا حجر الأساس وبنبني الجدار إن شاء الله» ففي هذه اللمحة التاريخية الخاطفة يشحن صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد الذاكرة للرجوع خمسين عاماً إلى الوراء ليروي لنا بصوته الواثق كيف كانت أخلاقية المحبة والإيثار وراء هذا البناء العظيم الذي تجسّد في هذه الدولة الزاهرة والتي لم تعرف سوى طريق واحد في مسيرتها الخمسينية هي طريق التقدم وزيادة النماء، وتوسيع الآفاق، واكتساب احترام الأشقاء والأصدقاء، وكيف لا يكون ذلك كذلك وكلا الرجلين يفتتح موقفه بقوله: «على بركة الله» فكانت بركة الله وراء كل شيء وأمامه، وها هي الأجيال ما زالت تستشعر بصدق كامل عمق اللحظات الضاربة في جذر الأرض وكيف أنّ سماحة النفس وطيب الأخلاق كانا وراء تأسيس هذه الدولة التي يفتخر بها القاصي والداني بسبب ما تسلكه من سياسة تجمع ولا تُفرّق، وتعطي ولا تأخذ، وتصون حق الجوار وتُقدّمُ الخير في كل مكان على هذه البسيطة المعمورة بالإنسان، فكان الحبّ والإيثار هو حجر الأساس الذي علا بنيانه مع مرور الأيام حتى أصبحت الإمارات النموذج الحضاري الذي يحظى بثقة الجميع واحترامهم.

«بعدهم ما يعرفون العلاقة بين راشد وزايد، العلاقة قوية جداً، يعني كلّ واحد يحبّ الثاني، كلّ واحد يحترم الثاني، كلّ واحد يِأمّن في الثاني أمانة عمياء»، وفي هذا المقطع البديع من حديث صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد يكشف عن عمق العلاقة بين الشيخين الكبيرين، وتجليات هذه الثقة المطلقة بينهما، وقيام تلك العلاقة على ثلاثية راسخة من القِيم النادرة بين رجال الحكم والسياسة والتي تمثلت في: الحبّ الصافي الأصيل الذي يختزنه قلب الفارس للفارس، والاحترام الصادق الذي يتأسّس على الخبرة الصحيحة والمواقف النبيلة، ثم الثقة المطلقة التي تتجلّى في الشعور الكامل بالأمان المتبادل بين الطرفين إلى الحدّ الذي وصفه صاحب السموّ بقوله: «أمانة عمياء» وهذا نوع نادر من الثقة بين الرجال لكن القلوب الكبيرة هي معدن العواطف الكبيرة والأخلاق الكبيرة، وهكذا كان الشيخان المؤسسان زايد وراشد عليهما رحمة الله، فقد كانا ظِلّ البلاد الظليل، وسيفها الماضي الصقيل، وكانا معدنين من معادن الحكمة وسداد النظر، ومهما طال الزمان فستظل ذكراهما عميقة الحضور في الوجدان الوطني النزيه الذي لا يتنكر للرجال الأوفياء الذين قدموا كل شيء في سبيل رفعة هذا الوطن وإعلاء شأنه بين الأمم، لتظلّ الإمارات أمانة بين أيدي الرجال الذين نهلوا من مدرسة هذين القائدين الكبيرين رحمهما الله وأسبغ عليهما رَوْحه وريحانه.

إنّ قصة الإمارات لا تستوعبها الكلمات، وإنّ العلاقة النادرة الفريدة بين الشيخ زايد والشيخ راشد رحمهما الله لا تقوم بحقها السطور، وإذا كان صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد قد اكتفى بهذه اللمعة الخاطفة في هذا الحديث، فقد احتفظ للأجيال بأدق التفاصيل التي شهدت ميلاد الدولة، وأبدع في رسم ملامح المشهد الكبير في سيرته الذاتية الرائعة «قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً»، هذه السيرة التي تستحق أن تكون مُدوّنة للضمير الوطني الذي يريد أن يعرف تاريخ هذا الوطن وتفاصيل مسيرته الخمسينية الرائعة الجميلة.

Email