بيت في حقيبة سفر!

ت + ت - الحجم الطبيعي

يرحلون عنا ولا يغادروننا. يبقون معنا رغم بعد المسافات. حاضرون وليسوا موجودين. لكلماتهم رائحة تظل عالقة على جدران الذاكرة، في تلك المنطقة المسماة.. القلب، وربما العقل. لأولئك ضحكات جرسية بيضاء، ترن كلما نشبت عتمة الحزن أظافرها في لحم أيامنا، فتهرب وحوش الوحدة ويعم النور الحياة.

تلتقيها، بعد غياب سنة أو خمس أو حتى عشر، يعود الزمن بكما إلى الوراء. من قال إن الزمن لا يعود إلى الوراء؟!

تطوي المسافة التي مشاها الفراق نفسها. ترحل لتترك لكما بساطاً أخضر، طاولة لاثنين وكرسيين متقابلين، فنجاني قهوة بنكهة جلسات زمان. تحتسيانهما رشفة رشفة، وكل رشفة تذكركما بسنة فرح مما لم تكونوا تحسبون أن بعدها.. الفراق.

الفراق يؤلم الأوفياء فقط. أما عابرو السبيل فلا يتركون أثراً ولا ظلاً ولا لهفة حنين. البعض يجمعك القدر به أسبوعاً أو شهراً أو سنة فيسكنك طيلة العمر. ويظل معك وهو ليس معك. والبعض تتزامل معه سنة أو عشر أو أكثر، وما أن تفترقا فكأنك لم تلتقيه أبداً.

.. التقاها بعد غياب عشر سنوات. وما أن رآها ورأته حتى هربت السنوات لكأنها لم تمر وانمحت خطوط العمر عن الوجهين اللذين أرهقهما التعب. عاد البريق إلى العيون التي ذبلت وصغرت لكنها أصبحت ترى أبعد وأعمق. كانا يستمعان لبعضهما في حديث مزدوج بكلمات موجزة، حديث اللسان وحديث العيون.

ألم يقل النفري «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»؟

«ها.. ماذا فعلت معك السنين؟»

- ما زلت أعمل، كما عرفتني، أعمل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع... فقط. ولطبيعة عملي أتنقل من بلد إلى بلد ومن فندق إلى فندق حتى أصبح بيتي في حقيبة السفر.

لقد قلبت «كورونا» حياة الناس رأساً على.. قدم. تعبت الأقدام وشحت الأرزاق وللأسف.. تراجعت الأخلاق. أصبح شعار «اللهم نفسي وأولادي وعائلتي»، ثم سقطت «عائلتي» غصباً لا سهواً، والخشية أن تسقط «أولادي» فنعود إلى الغابة ويصبح البشر كالقطط تأكل أولادها!

«وأنت.. ماذا فعلت في هذه العشر سنين؟»

•    تقاعدت من الوظيفة لكني لم.. أقعد! أصبحت «متقاعد» وليس «مُت.. قاعد».

أقرأ، أكتب، أفكر، أتأمل و.. أتألم. كل شيء في الحياة تغير، طبعاً إلى الأسوأ. لم تعد الأخلاق أولاً بل المصالح الشخصية. الأخ صار بمكانة ابن العم، الأخت.. جارة، ابنة الخال.. غريبة وووو. لقد تفككت الروابط الأسرية التي كانت تقرب الناس من بعضهم.

-... والأصدقاء؟

لقد استبدلتهم بأصدقاء لا يكذبون، لا ينافقون، لا يخدعون و.. لا يثرثرون. يمنحوني الثمار والظلال والجمال ولا يطلبون سوى الماء، فقط الماء. في الصباح أصحو على ابتساماتهم، أشرب قهوتي معهم، نتحدث كثيراً بلا كلام، نضحك من القلب ضحكات وردية لا صفراوية. وحين أغادرهم في المساء يمنحوني عطراً يكفي لنوم هادئ وأحلام وردية.

•    أفهم تعلقك بالشجر لكن هذا لا يكفي وليس واقعياً.

وهل يعجبك الواقع ؟

- طبعاً.. لا

هل تستطيعين تغييره وسط هذا الجنون الذي تمارسه الأرض؟ هل تذكرين من قال «أوقفوا دوران هذه الأرض أريد أن أنزل»؟

أنا لا أريد أن أنزل، أريد أن انزوي، لا أن أنطوي. سأبقي شراعي مرفوعاً رغم الرياح والعواصف. سأتمتع بكل ما هو جميل بكل ما أوتيت من حياة. سأفعل كما فعلت الفراشات التي تكاثرت لا كالدينصورات التي انقرضت.

لقد صنعت واقعي بيدي، سعيد به. سعيد حد الفجيعة لما وصل إليه البشر!

 

* كاتب أردني

 

Email