الفصائل الفلسطينية.. والفرص الضائعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ 28 عاماً دخلت غزة برفقة الرئيس الفلسطيني (الراحل) ياسر عرفات، الذي كانت تستبد به الفرحة وهو يلوح لمئات الآلاف، الذين وقفوا على جانبي الطريق يرحبون من رفح إلى مدينة غزة، التي عاد إليها لأول مرة منذ عدوان 1967.

عند منتصف الليل، التقيت ومجموعة من الصحافيين مع عرفات في مقره المؤقت، وبرغم الإرهاق الذي كان بادياً عليه، تحدث مطولاً عن نضال الشعب الفلسطيني في سبيل التحرر، ثم قال: إن هذا الشعب أثبت أنه أكثر وعياً من قياداته، وكان يشير إلى أن الاستقبال الذي حظي به، هو استفتاء شعبي يرد على موقف بعض الفصائل، التي ناهضت عرفات بعد توقيعه اتفاق أوسلو قبلها بعشرة أشهر.

وفي يوليو 1996 زرت غزة للمرة الثانية لمتابعة أول انتخابات رئاسية وتشريعية فلسطينية، وفي إحدى اللجان الانتخابية، وكان معي وزير العدل الفلسطيني (حينذاك) فريح أبو مدين، أبدى الوزير ملاحظة ينتقد فيها فقر المقاعد البلاستيكية داخل اللجنة.

سمعه أحد العمال البسطاء، ورد عليه: يا أخي تواضعوا. نحن هنا نعيش ثلاثين عاماً في ظل الاحتلال، وأنتم حين تعودون تعايروننا بفقرنا؟! أنتم المسؤولون عن هذه الأحوال ولسنا نحن.

شعر الوزير بالخجل، واحمر وجهه، وقال لي: انظر هذا هو الشعب الفلسطيني المعجون بالسياسة، الذي يراد لنا أن نحكمه!

على مدار العقود التالية، أثبت الشعب الفلسطيني كما عايشته في الزيارتين داخل غزة والضفة الغربية، كما عشت مع عديد من أبنائه في مصر والدول العربية وشتى بلدان الدنيا، إنه حقاً أكثر وعياً من قادته، وأحرص منهم على القضية.

أشعر بحزن شديد وأنا أتابع جولات الحوار الفلسطيني- الفلسطيني في القاهرة على مدى سنوات مضت من أجل توحيد الفصائل وجمع الشمل، ثم أجدها تنتهي إلى اتفاقات سرعان ما تنتهك من قبل أن يجف مدادها، ويبدو لي في بعض الأحيان أن المفاوضات لو استؤنفت بين الفلسطينيين وإسرائيل، لن تكون أعقد ولا أعسر من تلك التي تجرى بين الفلسطينيين بعضهم البعض!

وبكل أسف، تقدم الفصائل الفلسطينية المتناحرة بيدها الذريعة لحكومات إسرائيل، للتنصل من العودة إلى مائدة المفاوضات، بحجة عدم وجود شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه، بسبب خلافات الفصائل، وعدم إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية بعد انقضاء فترة الرئيس محمود عباس، والمجلس التشريعي الفلسطيني.

وبرغم أن نضال الشعب الفلسطيني من أجل عروبة القدس وانتفاضته في أحداث «حي الشيخ جراح» التي جابهها الاحتلال بالعدوان على غزة في مايو الماضي.

قد أعاد القضية الفلسطينية إلى بؤرة اهتمام الرأي العام العالمي، وأحيا القضية بعد حالة الموت السريري، التي اكتنفتها على مدار عشر سنوات مضت، منذ أحداث ما يسمى «الربيع العربي»، إلا أن الفصائل الفلسطينية لم تستثمر تلك الحالة، في نبذ الخلافات، وتوحيد الكلمة والإسراع بتنفيذ اتفاق القاهرة الموقع في فبراير الماضي.

وهكذا مضت الشهور، ومعها سرى الفتور عالمياً تجاه القضية الفلسطينية، وتوارى الاهتمام بها خلف أحداث أخرى استجدت في أفغانستان وليبيا والسودان، وما زالت الفصائل تتجادل حول أمور ليست في صلب القضية، ويتمترس بعضها خلف مطالبه، يريدها أن تتحقق جميعاً، وهو أمر لا يمكن أن تجده في السياسة، ولا تصل إليه بالتفاوض، والأهم أنه يأتي على حساب القضية الفلسطينية نفسها!

لست أبرئ حكومات إسرائيل، ولا أفترض أبداً أنها كانت ستهرول إلى مائدة المفاوضات، لولا خلافات الفصائل، وعدم إجراء الانتخابات الفلسطينية وغيرها من استحقاقات، لكني أقول:

إن استمرار الخلافات هو الذي قطع الطريق على مبادرات دولية، للضغط على إسرائيل في أعقاب عدوانها على غزة، وهو الذي دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت الشهر الماضى إلى الرد على دعوة المستشارة الألمانية ميركل بالتوصل إلى اتفاق على أساس «حل الدولتين»، قائلاً: «لن أسمح بإقامة دولة فلسطينية، لأن معنى هذا قيام دولة إرهابية على بعد 7 دقائق من بيتي»!

لا بديل عن اتفاق الفصائل وإجراء الانتخابات، فالوحدة الفلسطينية هي أهم أوراق الضغط على حكومات إسرائيل، وهي طوق النجاة للقضية الفلسطينية من الغرق في دوامة الفرص الضائعة.

وفي كل الأحوال، لن يجالسك على مائدة تفاوض من لا يشعر بقوتك، ولن تحصل عبر المفاوضات على ما لا تقدر أن تحصل عليه بغيرها!

* كاتب صحافي

 

Email