هل تُركّز الديمقراطية بآليات غير ديمقراطية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

صرّح القيادي في «التيّار الديمقراطي» محمد عبّو - الذي كان أعلن مساندته للحركة التصحيحية التي قام بها الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 يوليو 2021، قبل أن يبدي بعض التحفّظات جرّاء بطء عملية تجاوز مخلّفات عشرية الدمار التي قادتها حركة النهضة الإخوانية - صرّح أنّه «لا يمكن العودة إلى نظام 7 نوفمبر «ما قبل (ثورة) 14 يناير 2011»، مضيفاً أنّه «يجب القطع أيضاً مع عشرية الفشل لحكم النهضة» ومشدّداً على أنّ ما تحتاجه تونس هو «فقط جزء واعٍ من الشعب يصرّ على الخروج من التخلّف، ولا يقع تحت تأثير المغالطات».

وفضلاً عن أنّ هذا التصريح يستبطن القصور لدى المواطن التونسي، فهو بدا كمحاولة من حزب «التيّار الديمقراطي» لإعادة العلاقة مع الرئيس قيس سعيّد على أساس الثوابت المشتركة الأولى التي رأى أنّها تمثّل قاسماً مشتركاً بينهما، وهذه الثوابت هي أوّلاً، ضرورة القطع النهائي والصارم مع منظومة ما قبل 14 يناير 2011 وثانياً، إقامة مجتمع ديمقراطي بعد تنقيته وتطهيره من «الفاسدين» وثالثاً، بناء «المجتمع الجديد» بالاقتصار على جزءٍ واعٍ من الشعب محصّن (في تقديرهم) ضدّ المغالطات، ورابعاً، تعميم التقييم المنسحب على منظومة ما قبل 14 يناير 2011 على حقبة عشرية حُكْمِ «النهضة الإخوانية» الأخيرة.

ومعلوم أنّ القاسم المشترك لعموم التونسيين هو ضرورة تركيز دولة مدنية تديرها كفاءات تزخر بها دولة الاستقلال وإقامة مجتمع ديمقراطي تعدّدي وإرساء منوال تنمية اجتماعي يوفّر عناصر الكرامة للمواطن ويضمن عزّة الوطن واستقلال قراره ويقطع مع منظومة الفساد والإفساد.

ونخال أنّ هذه القواسم المشتركة بين التونسيين وقع تحويل وجهتها بُعيد 14 يناير 2011 وذلك باستعمال آلية الإقصاء ومحاولة تدمير القوى المجتمعية والحزبية المنافسة وذلك لأسباب لا علاقة لها بالغيرة على المسألة الديمقراطية ولا بتركيز الدولة المدنية وإنّما هي متعلّقة فقط بالصراع المرضي على السلطة.

ونستحضر تسريبات «مجلس شورى» النهضة الإخوانية التي نصّت على ضرورة القضاء المبرم على حزب «التجمّع الدستوري الديمقراطي» الحاكم قبل 2011 وعلى منع كلّ محاولات إحيائه من جديد، إضافة إلى مساعيها المحمومة والمرضية لضرب الاتحاد العام للشغل (اتحاد العمال) بحكم كونه القوّة المجتمعية الأولى في تونس والتي يعد ضربها وتفكيكها مقدّمة ضرورية في تقدير النهضة الإخوانية لبسط النفوذ على الدولة والمجتمع.

وبالطبع فشلت المحاولات الأولى لمشروع «الإخوان» في تونس وتصدّت القوى المجتمعية الحداثية لمشروع الدمار والتدمير التي حاولت حركة النهضة الإخوانية فرضه خلال حقبة الترويكا الأولى بالخصوص والتي كان القيادي في التيّار الديمقراطي محمّد عبّو جزءاً منها قبل أن يلقي بنفسه من السفينة الغارقة لا محالة.

و«رياضة» تغيير المواقف في تونس هي أكبر الآفات والأمراض التي علقت بأغلب مكوّنات النخبة السياسية والحزبية في تونس، وقد كان الموقع من السلطة هو المحدّد دوماً لموقف الأطراف بعيداً عن أيّ مبدئية وقيم وشعارات برّاقة.

ولأنّ تاريخ تونس القديم والحديث ليس تاريخ قطيعات ولا هو تاريخ ثورات دائمة، فإنّنا لا نعتقد في صحّة البناء باستعمال آلية الإقصاء والقطع الصارم مع السابق على اعتبار أنّه شرّ بالمطلق.

ومثلما أنّه لا يمكن بحال نسف وجود اتّحاد العمّال لأسباب تاريخية ووطنية فإنّ «الدساترة» وهم من بناة دولة الاستقلال في كلّ مراحلها وبكلّ إيجابياتها وسلبياتها، لا يمكن شطبهم بجرّة قلم أو بقرار يستند إلى «شرعية ثورية» وهمية لأنّ الكلّ في تونس يعلم أنّ اللجوء إلى آلية الإقصاء هو لإزاحة الخصوم برسائل غير ديمقراطية وهي كلّها تجارب باءت بالفشل الذريع وفي كلّ التجارب المقارنة وفي كلّ الأحوال فإنّ القضاء على المنظومة لا يعني إبادة المنتمين إليها لأنّ هذا يقفل باب النقد الذاتي ومراجعة المواقف أمام الأفراد والمجموعات.

ومثلما أنّ التونسيين يرفضون بقوّة العودة إلى نظام ما قبل 2011 لأسباب متعلّقة بالفشل النسبي في منوال التنمية وكذلك وبالخصوص لأسباب ترجع إلى غياب ديمقراطية تعددية فعلية، فإنّهم يطالبون بأكثر قوّة بضرورة القطع النهائي مع عشرية الدمار والثورة المضادة التي حاكت خيوطها حركة النهضة الإخوانية بعد 2011.

إنّ ما عقب حراك 14 يناير 2011 لم يكن بحال من الأحوال «ثورة» تبرّر المواقف الاقصائية لبعض الأطراف، بل إنّ ما جرى هو «ثورة مضادّة» حاولت بشتّى الطرق الرجوع بتونس قروناً إلى الوراء، ليس لأسباب قيمية وأخلاقية كما يردّدون، ولكن لأسباب متعلّقة بالصراع المحموم على السلطة.

وفي المقابل فإنّ خلاص تونس ليس في دخولها أتون الشعبوية المؤسّسة على الرأي الواحد والحقيقة الواحدة والمطلقة رغم طابعها الإطلاقي الخجول، إنّ تاريخ تونس الإصلاح ولا شيء غير الإصلاح.

* كاتب تونسي

Email