حنين الذكرى.. و«العروبة الجديدة»

ت + ت - الحجم الطبيعي

علاقتي بصحيفة «البيان» بدأت قبل 40 عاماً مضت، كقارئ نهم، يقضي نصف اليوم في مطالعة الصحف والكتب، في زمن كان الكتاب سيد المعرفة، والصحيفة مصدر الأخبار.

وكان التليفزيون بضع محطات محلية يغلب عليها طابع الترفيه، وفي وقت كانت الأطباق اللاقطة نطفة في عقول مبدعيها، وأجهزة الاستقبال حلماً بين دفتي دراسة، والحواسب الإلكترونية بحجم غرفة، وأجهزة المحمول الذكية ضرباً من الخيال العلمي.

وقتها جئت مع والدي إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، ليعمل مديراً لمكتب صحيفة «الاتحاد» بالشارقة والإمارات الشمالية، وكانت بجانب «الاتحاد» في ذلك الحين 4 صحف يومية مؤثرة، هي «البيان» و«الخليج» و«الوحدة» و«الفجر».

و كانت «البيان» لها طابع يميزها عن غيرها في لون ورق صفحاتها المماثل لصحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية الشهيرة، وكانت «البيان» ولم تزل تتسم برصانة وموضوعية في عرض الأحداث وتحليلها.

وفي تلك الفترة العصيبة، التي كان حدثها الأبرز هو اشتعال حرب مجنونة بين العراق وإيران، استمرت بعد ذلك ثماني سنوات كاملة، وخلفت مليون قتيل من الجنود والمدنيين، وأضعافهم من الجرحى والمصابين.

عشت عاماً دراسياً كاملاً في مدرستي بالشارقة، أعتبره من أغنى تجاربي الحياتية، فقد كان زملائي بالصف الثاني الثانوي يشكلون جامعة عربية فَتِية من الشباب، ينتمون لمعظم الأقطار العربية من موريتانيا إلى سلطنة عمان، وكان أساتذتنا الأجلاء هم نخبة من أقدر المعلمين من مختلف البلدان العربية بجانب دولة الإمارات.

وجمعت بيننا بجانب الزمالة الدراسية في مدرستنا «العروبة» الثانوية (لاحظوا الاسم)، أواصر الأحلام والهموم المشتركة، وروابط الثقافة الجامعة والتاريخ الممتد والمصير الواحد.

وبينما كانت السياسة والاختلافات المعهودة تفرق أحياناً بين دولنا العربية، كانت مشاعرنا الغضة الخضراء تعلو عليها برغم صغر سننا، وكانت الفنون العربية الأصيلة من شعر وغناء هي زادنا في أوقات الراحة والفراغ والأنشطة الطلابية.

ولست أبالغ إذا قلت إن ركناً أساسياً من تكويني وزملائي العروبي أرسته تلك الصلة الحميمة التي توطدت بيننا في مدرسة «العروبة»، وكان للمعايشة اليومية أثرها في ترسيخ مفهوم أننا ننتمي لأمة واحدة عريقة قادرة على أن تستعيد مجدها.

بعد عقود من تلك التجربة الغنية، عايشت تجربة مماثلة مع زملاء لي من كبار الصحفيين والكتاب من مختلف الدول العربية، من المغرب إلى الكويت، في مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية.

وفي المحفل السنوي لنادي دبي للصحافة، وبرغم مرور السنين وآثار الزمن على الوجوه، وبرغم العثرات والانتكاسات بل والحروب التي عركت دولنا العربية عرك الرحى بثفالها، فإن كل ذلك لم يقتل في قلوبنا الحلم القديم بجمع شتات الأمة ولم شملها لتتمكن من تخطي تلال التحديات التي تواجه دولها في سعيها نحو الاستقرار والتنمية والحداثة.

ولعلي أنطلق من اقتراب موعد الاحتفال باليوبيل الذهبي لقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، كأنجح وأبقى تجربة للوحدة في أمتنا العربية، لكي أدعو المفكرين القوميين ومراكز الدراسات والبحوث، إلى إحياء مفهوم القومية العربية الذي أصابه التشوش والوهن في عقول شبابنا والأجيال الجديدة، بفعل ما جرى من أحداث جسام منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتدشين ما أسميه بمبدأ «العروبة الجديدة».

الذي يتأسس من وجهة نظري على هدف استعادة الدولة الوطنية في البلدان التي تعصف بها الحروب الأهلية والأزمات السياسية، وسيادة مفهوم مدنية الدولة في مواجهة الفكر المتطرف الذي يرعاه الإسلام السياسي .

وفي القلب منه جماعة الإخوان، وتطوير جامعة الدول العربية وهياكلها مع تعزيز أدوار التجمعات السياسية الإقليمية وإحياء المتداعي منها، وصون مركز الثقل العربي الثلاثي الذي استطاع الصمود في قلب رياح ما يسمى بـ«الربيع العربي» والمخططات الدولية التي استظلت بعواصفه، مع الاحتفاظ بالهوية العربية والدفاع عن المصالح المشتركة أمام مطامع ومطامح وتدخلات القوى الإقليمية غير العربية.

وربما يكون لمنتدى الإعلام العربي بدبي إسهامه البارز في التعاطي مع تجديد الفكر القومي وتدشين مبدأ «العروبة الجديدة»، عند انعقاده المرتقب في شهر مارس المقبل.

*كاتب صحافي

 

Email