أعمق من «أزمة سائقين»

ت + ت - الحجم الطبيعي

تضمن تقرير حديث موثق، أصدره مركز التنمية العالمي في واشنطن، أن القارة الأوروبية، بما فيها بريطانيا، سوف تعاني في العام 2050 من نقص في الأيدي العاملة يقدر بحوالي 95 مليون شخص، وذلك مقارنة بالعام 2015. ولمعالجة هذا العجز يوصي التقرير بالاعتماد على المهاجرين الأفارقة.

في التفصيلات، نعثر على بيانات مستقبلية بالغة الدلالة.. ففي العام 2050 سيصل عدد الأفارقة في سن العمل والإنتاج بين العشرين والرابعة والستين إلى زهاء 1.3 مليار نسمة، بينما سيكون عدد الأوروبيين المنتمين للفئة العمرية ذاتها قد نقص بأكثر من 100 مليون نفس.

بكلام آخر، سيبدو المشهد على جانبي المتوسط بعد تسعة وعشرين عاماً من الآن كما يلي: أوروبا في الشمال تعيش على صفيح ساخن بفعل أزمة حادة في شريحة السكان القادرين على العطاء وتشغيل دواليب الاقتصاد بالكفاءة اللازمة.. مقابل جارة أفريقية في الجنوب، تئن من التخمة في هذه الشريحة.

تعزى أزمة الشمال إلى تمتع الأوروبيين بأعمار طويلة، تتجاوز مرحلة العطاء الاقتصادي إلى أعوام ممتدة من الاعتماد على التأمينات والمعاشات والرعاية الصحية، بما يضغط على موازنات القطاعات الحكومية والخاصة ذات الصلة. ويتفاقم هذا الوضع جراء انخفاض معدلات الإنجاب وافتقار سوق العمل للدماء الجديدة.

يغلق التقرير أبواب الأمل أمام الباحثين عن حلول لهذه الأزمة من داخل الرحاب الأوروبية.. فمحاولة زيادة المواليد باءت وسوف تبوء بالفشل، وليس ثمة قبول عام لرفع سن التقاعد.. كما أن نظم الذكاء الصناعي والتشغيل بالروبوتات لن تقلل الطلب على الوظائف، ولا بوسعها سد الفجوة بين العرض الشحيح للعمالة والطلب الواسع عليها. وعليه، فإن الحل الأفريقي لهذه المعضلة هو الأكثر واقعية «وينبغي على الأوروبيين الاعتراف بأنهم يحتاجون للأفارقة، بقدر ما افترضوا دائماً حاجة الأخيرين لهم».

هذه التقديرات تحظى بصدقية كبيرة.. لكنها للإنصاف تكاد تعيد إنتاج العجلة، لأنه سبق لبعض أهل الذكر أن عرضوا مثيلات لها على الملأ منذ أكثر من عقدين. وقد لا يتجاوز الغرض من بسطها راهناً توكيدها وتذكير من يعنيهم الأمر مجدداً بالتحولات الفارقة، الاستراتيجية إن أراد البعض، التي تخص أحوال القطاعات السكانية وبنيتها في القارتين القديمتين.

عطفاً على ذلك، يجدر التنويه إلى أن التعنت الأوروبي في استقبال المهاجرين واللاجئين لا ينبني، بنظر بعض العارفين بمآلات هذه التحولات، على أسس أو مبررات حقيقية. كل ما في الأمر أن القوى الأوروبية تضمر استغلال ظروف هؤلاء المعذبين؛ الباحثين عن ملاذات تضمن لهم حياة اجتماعية اقتصادية أفضل، بحيث يتم إخضاعهم لشروط تعتصرهم وتقلل كلفة تشغيلهم قبل إدماجهم في أسواقها.. ومن ذلك، الانتقائية المفرطة للعناصر الغضة والفتية، فضلاً عن المتميزين علمياً وتقنياً والقابلين لسرعة التكيف مع مجتمعات الشمال المتقدمة. وفي اعتقاد من يحسنون الظن، أن هذه القوى لا تبغي سوى تنظيم قضية الهجرة والمهاجرين، وعدم تركها وتوابعها نهباً للعشوائية.

في هذا الإطار تظل الفكرة الأكثر رواجاً في شمال المتوسط أن استقبال الوافدين، المتعطشين للعمل والكسب، يمثل نوعاً من التفضل عليهم.. بينما الأصل أن أوروبا تتحرق للتعامل مع ظاهرة تعالج لديها إشكالية مستعصية. تماماً مثلما يؤكد تشارلز كيني كاتب التقرير المومأ إليه.

لا بد أن نغبط الرجل ومؤسسته على تحليلهم الموضوعي.. لكننا ندفع بأن هذا التحليل يعد متفائلاً أكثر من اللازم. فتجليات ندرة العمالة، ولا سيما غير الماهرة ومتوسطة المهارة، لم ولن تنتظر وصول القارة العجوز إلى العام 2050. فهي الآن، في ساعتنا هذه، تأخذ بخناق بعض أهم القطاعات الحيوية.. النقل الثقيل في بريطانيا مثلاً. ومؤدى ذلك أن البريطانيين يستصرخون جيرانهم الأوروبيين في الشمال والمجتمعات المصدرة للمهاجرين في الجنوب، طالبين المدد بما لا يقل عن مئة ألف سائق للشاحنات، كي تدور عجلة الإنتاج والتوزيع بحيثية طبيعية.

العزة القومية الفائضة، التي ساقت البريطانيين لمغادرة الاتحاد الأوروبي، لم تجد نفعاً ساعة أن ظهر العجز الذاتي في الأيدي العاملة لدى قطاع اقتصادي واحد في الدولة. ونظن أن الحسابات ذاتها، مع بعض الفوارق الطفيفة، سوف تدهم القارة الأوروبية، بوتيرة أسرع بكثير مما يتوقعه المنشغلون بتدبر التوابع الاقتصادية للتطورات السكانية على الصعد القارية.

Email