أوروبا.. إلى أين؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

«مع بايدن، أمريكا عادت. لكن ما معنى عودتها؟ هل هي عادت داخل أمريكا أم عادت في أمكنة أخرى؟ لا أحد يعرف». تلك العبارة التي قالها رئيس المجلس الأوروبي تحكي في كلمات قليلة طبيعة الأزمة التي تعيشها أوروبا اليوم مع أمريكا. وهي أزمة، في تزامنها مع الرحيل المرتقب لأنجيلا ميركل، تفتح مستقبل أوروبا على كل الاحتمالات.

وتلك العبارة قالها صاحبها عقب التحالف الذي أبرم أخيراً بين أمريكا وبريطانيا واستراليا، والذي صار يعرف اختصاراً بالأحرف الأولى للدول الثلاث «أوكاس». وهو يقضي بمنح أمريكا غواصات تعمل بالطاقة النووية لاستراليا. والواضح أن الاتفاق يمثل ركيزة جديدة لاستراتيجية بايدن القائمة على تحويل اهتمام الولايات المتحدة من الشرق الأوسط لمنطقة المحيطين الهادي والهندي وبحر الصين بهدف احتواء الصين، التي صارت تعتبرها أمريكا التهديد الأول لها. لكن الاتفاق أثار ردود أفعال غاضبة في أوروبا خصوصاً في فرنسا. فاستراليا، بموجب هذا الاتفاق، قامت بإلغاء صفقة غواصات تعمل بالطاقة الكهربائية مع فرنسا كانت ستحصل من خلالها فرنسا على مليارات الدولارات مقابل بيع تلك الغواصات لأستراليا.

لكن من يعرف الثقافة الفرنسية جيداً يدرك أن الغضب الفرنسي لم يكن فقط بسبب فقدان تلك المليارات، وإنما لأن الاتفاق مثّل أيضاً استهانة بفرنسا وجرحاً لكرامتها الوطنية، وهو ما عبّر عنه صراحة وزير خارجيتها بقوله إن ما جرى «كان طعنة في الظهر». لكن الغضب لم يقتصر على فرنسا وإنما طال دول الاتحاد الأوروبي التي اعتبرت أن ما جرى تقويض لحلف الأطلسي والتحالف الأوروبي الأمريكي. ليس ذلك فقط وإنما اعتبرته أوروبا مؤشراً جديداً على أن بايدن لا يمكن الوثوق به، بل ولا يختلف كثيراً عن ترامب في تجاهل الحلفاء الأوروبيين. وقد استخدم أحد المعلقين الأوروبيين تعبيراً ذا دلالة حين وصف بايدن بأنه «ترامب من دون تويتر». وقد رأت دول الاتحاد الأوروبي في الاتفاق الأمريكي الأسترالي البريطاني مجرد حلقة في سلسلة طويلة من المواقف الأمريكية تجاهلت المصالح الأوروبية عبر عقود متتالية. فلم ينس الأوروبيون أبداً أن جورج بوش الابن غزا العراق رغم معارضة الأغلبية الساحقة من حلفائه الأوروبيين. ولم تغفر أوروبا لأوباما تحركه في سوريا دون موافقة حلفائه وبما يضر مصالحهم.

وقد دفع اتفاق «الأوكاس» زعامات أوروبية بما فيها بعض المسؤولين الكبار في الاتحاد الأوروبي للتأكيد على ضرورة المضي قدماً في التوصل لاتفاق حول استراتيجية أمنية أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة.

غير أن مستقبل أوروبا أكثر تعقيداً من مجرد التوصل لمثل ذلك الاتفاق. فرغم وجود توجه عام داخل الاتحاد الأوروبي نحو ذلك المسار، إلا أن بعض الدول تريد، ولو في الكواليس، توخي الحذر. فمع رحيل أنجيلا ميركل المرتقب، والتي كانت فعلياً القيادة الأكثر صلابة للاتحاد الأوروبي، يكون من الطبيعي أن تتجه الأنظار لفرنسا لتقود الاتحاد، خصوصاً بعدما خرجت منه بريطانيا. والرغبة في توخي الحذر مصدرها القلق من أن تكون لفرنسا أجندة خاصة تسعى من خلالها لدعم صناعاتها العسكرية بدعوى الاستراتيجية المستقلة عن الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، ترى دول شرق أوروبا أن الإصرار الأوروبي على التوصل لاستراتيجية «المستقلة» توجه محفوف بالمخاطر. فهي على قناعة بأن أوروبا عاجزة، دون أمريكا، عن الدفاع عن نفسها في مواجهة الصين وروسيا.

ومن هنا، فإن الوجهة المستقبلية التي ستتخذها أوروبا مفتوحة على احتمالات عدة. فبإمكانها مثلاً أن تعتبر الاتفاق مجرد خلاف تجاري بين فرنسا واستراليا وتنأى بنفسها عن تحويل الغضب الفرنسي إلى موقف أوروبي موحد يخلق أزمة ممتدة مع الولايات المتحدة يمكن أن تستغلها الصين وروسيا. وبإمكانها أيضاً أن تفعل العكس، فتعتبر ما جرى مع فرنسا بمثابة جرس إنذار لباقي دولها يحذر من «الغدر» الأمريكي، على حد تعبير وزير خارجية فرنسا، الأمر الذي يدفع نحو المزيد من الاستقلالية العسكرية والأمنية الأوروبية، والذي قد يعني تحويل وجود أوروبا العسكري في الخارج إلى مناطق نفوذها مثل أفريقيا بدلاً من دعم أمريكا في المحيطين الهادي والهندي.

وأياً كانت الوجهة التي ستتخذها أوروبا، فلعل المتيقن الوحيد هو أن الرغبة الأوروبية في تقوية الاتحاد الأوروبي ستكون أكثر قوة من أي وقت مضى.

* كاتبة مصرية

Email