أمانةُ زايد

ت + ت - الحجم الطبيعي

في سُنّة الحياة العادية، وحين يتعب الآباء في بناء بيت لأولادهم، يكون أكبر همّهم أن يحافظ هؤلاء الأبناء على هذا البيت، الذي تمّ بناؤه بعَرَقِ الجبين، وبجهد ربما لا يعرفه الأبناء الساكنون فيه، وهذا الذي يقال هنا في البيت الصغير يقال مثله، وأكثر في بناء الدول وتأسيس الحضارات، وكم تحتفظ كتب الأدب والتاريخ بوصايا خالدة، أوصى بها الآباء المؤسسون للدول أبناءهم بعدم التفريط بهذا المجد، الذي ما وصل إليهم إلا على رشح الجبين، وربما في غبار المعارك، وعلى ظهور الخيل، فمن ظنّ أن المجد سهل المجتنى فما عرف طبيعة المجد، ورحم الله أبا الطيب المتنبي حين أبدع في وصف هذا المعنى العزيز بقوله:

لا تحسب المجدَ تمراً أنتَ آكلُهُ

لن تبلغَ المجدَ حتى تلعقَ الصبِرا

وحين اختارت الإمارات أن يكون اسمها دولة (الإمارات العربية المتحدة) فقد أرادت أن تظلّ قصة بناء الدولة أمام العيون الناظرة، فهذه الدولة كانت في الماضي مجموعة من الإمارات العربية، التي كانت متفرقة في هذه الأرض، يجري عليها ما يجري على كل المتفرقين من ضنك العيش ونشوء النزاعات، وضعف القوة في مواجهة العدو المشترك، حتى قيّض الله لها رجلاً قد لوّحت جبينَه شمسُ الصحراء، وتمرّس بالحياة، وذاق حلوها ومُرّها، وتعلم الحكمة على أربابها، ذلكم هو المغفور له، طيب الذكرى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، الذي رأى ببصيرته النيّرة أنّ قَدر هذه البلاد أن تكون تحت راية واحدة، وأن تلتفّ سواعد أبنائها على علم واحد، فانطلق من العين واخترق الصحراء، وجمع شمل الرجال الأوفياء الشجعان، وصارحهم بما في نفسه، فلقيت دعوته كل ترحيب وقبول، وشدّ الله أزره برجل عظيم الهمّة، ثاقب الرؤية، توّاقٍ إلى الوحدة هو المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبيّ، فاتّحد الساعدان، وأفلح القائدان في جمع قلوب رجال الحكم في الإمارات الأخرى، بعد جهاد امتد ثلاث سنوات منذ العام 1968 إلى العام 1971، لتبرز إلى العالم دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي اللحظة التاريخية الفارقة، التي سجّلها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، رعاه الله، بحروف من الفخر حين جعلها القصة السادسة والعشرين من كتابه الرائع (قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً) بعنوان «سباق مع الزمن»، حيث افتتحها بقوله: «منذ العام 1968 وحتى العام 1971 كنّا في سباق مع الزمن لتأمين أهمّ اتفاق عربي ما زال سارياً حتى اليوم، اتفاق كانت نتيجته دولة الإمارات العربية المتحدة، الدولة العربية الوحيدة، التي قامت نتيجة اتحاد العرب وليس تقسيمهم، الدولة الوحيدة التي قامت على انضمام مناطق عربية بالاتفاق وليس ضمّها بالقوة، الدولة الوحيدة التي أثبتت أنّ العرب يمكن أن يتفقوا ويعملوا كونهم فريقاً واحداً لبناء مستقبل مشترك لشعوبهم» إلى آخر ما ذكره صاحب السموّ في هذه القصة الخالدة لنشوء دولة الإمارات، التي دوّنها بمشاعر الفخر والحذر، لأنه كان على اتصال مباشر بكل ما تمّ التخطيط له في سبيل إنجاز الاتحاد، فهو يرصد بعين القائد المفارقة التاريخية لنشأة الدولة، وأنها مختلفة عن جميع الدول، التي ظهرت إلى حيّز الوجود من خلال الانقسام وليس من خلال الاتحاد، أو الاحتلال بالقوة، وكأنّ لسان الحال يقول: أنتم أيها الإماراتيون أمام إرثٍ عظيم فلا تفرطوا فيه، وعَضّوا عليه بالنواجذ، وصونوا هذه الأمانة الغالية، التي تركها لكم رجال الوطن الكبار الذين سهروا الليالي في سبيل تحقيق هذا الحلم الفريد.

وفي هذه الأيام، والإمارات تقترب من عيدها الخمسين، نشر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد «تدوينة» عميقة التأثير جيّاشة بالعاطفة الصادقة لتأكيد عمق الشعور بقيمة هذا الوطن في صيغته الجليلة (الاتحاد)، والتي منحته هذا التفرد الرائع بين الشعوب، فلو بقيت الإمارات متفرقة كما كانت فهل كان من الممكن أن تصل إلى ما وصلت إليه من منزلة رفيعة القدر بين الأمم؟ ولذلك جاءت «تدوينة» صاحب السموّ لكي تنعش الذاكرة بتلك اللحظات الخالدة، التي كانت سببا في نشأة الدولة، ولتضخّ في الروح الوطنية دماء الاعتزاز بهذا الوطن، الذي يستحق كل وفاء وحب وعطاء.

(خمسين يوماً وتكمل الإمارات خمسين عاماً كدولة واحدة) وملحوظ في نبرة صاحب السموّ عمق الإحساس بهذا الإنجاز الكبير، الذي نهض به فرسان التأسيس، وصمموا على جعل الإمارات دولة واحدة، وهو مطلب عظيم في مرحلة تاريخية كانت تشهد كثيراً من الانقسامات داخل الوطن الواحد، فكانت الإمارات نموذجاً متفرداً بهر العالم حين استطاع الشيخ زايد، رحمه الله، تأسيس هذه الدولة الفتيّة من خلال توحيد جميع الإمارات، وتأسيس اتحاد يجمع شمل الجميع، ويوزّع مكاسب الوطن على الجميع، ويؤسس لهيبة الإنسان الإماراتي بين الأمم والشعوب التي رأت في هذه الخطوة الجبارة مظهراً من مظاهر القوة الحضارية والأخلاقية، فترسّخت مبكراً مكانة الإمارات في الوجدان الإنساني، وشعر الناس أنهم يتعاملون مع دولة تأسست على القيم، وليس على الحديد والنار.

(إماراتها متحدة، قلوبها متوحّدة، شعبها يرفع علماً واحداً، ويحتكم لدستور واحد، ويلتفّ حول رئيس واحد)، وفي هذا المقطع من «التدوينة» يشير صاحب السمو إلى مظاهر الوحدة الزاهرة، التي تتجلى في وحدة الإمارات التي كانت متفرقة في الماضي، ولم تكن هذه الوحدة شكلية، بل كانت نابعة من صميم القلوب، التي أدركت قيمة الوحدة بين أبناء الوطن الواحد، فتوحدت السواعد في ما بينها، ورفعت علم البلاد، وأبدعت في الزهو به، ولم تسمح للفرقة أن تسيطر على أي مظهر من مظاهر الحياة، فاحتكمت إلى دستور واحد يقوم على تحقيق العدالة بين الجميع، مع ولاء قوي لرئيس الدولة، الذي هو رمز وحدة الوطن، وصمام أمانه، والمسؤول المباشر عن صيانة هذه المكتسبات الثمينة للوطن وأبنائه.

( خمسين يوماً؛ لتنطلق احتفالاتنا في الثاني من ديسمبر 2021 بإذن الله) وإذا كان ما سبق من كلام صاحب السمو شحذاً للهِمم، وتذكيراً بجوهر الاتحاد، فقد ختم هذه «التدوينة» ببشارة تفتح نوافذ الأمل، وتُشرع الأبواب على المستقبل الزاهر لهذا الوطن في صيغته الوحدوية بين جميع أبنائه، فمجد الإمارات في العصر الحديث هو رهين تلك اللحظة التي أعلن فيها الشيخ زايد، رحمه الله، عن قيام الاتحاد، والذي رعاه بسهر العيون، وشدّ الإزار، وسلّمه أمانة خالدة للرجال، الذين ربّاهم على عينه، وغادر هذه الدنيا ولسان حاله يقول: «الإمارات أمانة في أعناقكم فلا تفرطوا فيها، فقد تعبتُ كثيراً حتى بنيت لكم هذا المجد، فكونوا خير سلف لخير خلف»، والسلام على زايد، وراشد في الخالدين.

 

Email