انكماش وتراجع أم إعادة انتشار؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

اكتمال انسحاب الأمريكيين شبه المهرول من بلاد الأفغان في أغسطس الماضي، معطوفاً على وعدهم بمغادرة أرض الرافدين بحلول نهاية هذا العام، وسحب جانب من معداتهم العسكرية في مواطن أخرى، أغرى البعض باستشراف أن عالمنا مقبل على حقبة من تقوقع القطب الأمريكي على الذات.. وهناك من تطوع بإسداء النصح للمعنيين في المنطقة العربية، أو الشرق الأوسط بعامة، بتعزيز سبل التعاون القومي أو الإقليمي تعظيماً للقوة الذاتية، أو البحث عن تحالفات مع قوى أخرى بديلة، كأوروبا والصين وروسيا، للحيلولة دون عدم الاستقرار المحتمل جراء هذا التحول الاستراتيجي وما قد ينشأ عنه من قلاقل، حتى لا نقول فراغات، أمنية وغير أمنية.

أصحاب هذا الاستشراف والنصح، في المحيط العربي خصوصاً، يحاورون سراً وعلانية بين جماعتين.. فهناك الغاضبون تقليدياً من توابع الوجود الأمريكي المكثف في تضاعيف هذا المحيط، باعتبار أن ضره كان بزعمهم أكبر من نفعه.. وعليه، فلا بد أنهم يضمرون شيئاً من التشفي ومشاعر الارتياح إزاء فرصة انزياح هذا العبء. وهناك من يخشون وقوع المنطقة في حالة من اللا إرادية والحيرة، وهي تواجه مشهداً لم تألفه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. ولنا أن نلحظ، كيف يتقاطع هذان الفريقان عند نقطة فارقة، تلك التي تخص صورة المنطقة وتفصيلات اليوم التالي للخروج الأمريكي.

على أن الأجدر بالملاحظة في هذا السياق المحموم، هو انطلاق توقعات الجميع تقريباً من فرضية أو مقدمة نظنها بحاجة إلى إعادة نظر وتحرير.. موجزها أن الأمريكي مقبل بالفعل على حمل عصاه والرحيل، على غرار ما فعل الأوروبيون من قبل. وهذا تفكير نتصوره أميل إلى الرغبوية أو الأمنياتية أو التحليق بعيداً منه إلى التدبر الاستراتيجي الواقعي المعمق. ففضلاً عن وجود شواهد كثيرة، ليس هنا مقام التوسع حولها، على فساد الاعتقاد بأن القوى الأوروبية غادرت أصقاع العالمين الثالث والرابع «كلياً» غداة الحرب العالمية الثانية، ثمة شواهد لافتة على صعوبة، إن لم تكن استحالة، الاطمئنان إلى زعم المغادرة الأمريكية «كلياً» لهذه الأصقاع، وفى القلب منها الشرق الأوسط.

فمن ناحية، ربما جاءت الانسحابات الأمريكية العسكرية المرصودة الأخيرة، عن قناعة بضرورة وقف الاستنزاف والكلفة البشرية والمالية، المترتبة على الوجود العضوي في مناطق ساخنة بعينها.. لكن الوجود الأمريكي بعامة لا يتعلق خطياً أو حتماً بالتغلغل العسكري المباشر. هناك عشرات الآليات والأدوات التي يصح من خلالها التأثير وتحريك النفوذ، صعوداً وهبوطاً في منطقة ما، بغير الوسائل العسكرية المباشرة. السوابق الأوروبية الأكثر رسوخاً في العلاقات الدولية، وتجارب القوى الآخذة في الصعود، كالصين مثلاً، تؤكد صدقية هذا النهج. وحتى لو كان النفوذ يرتهن أساساً بتفوق الطاقة والحراك العسكريين، فلا ينبغي تجاهل وجود أكثر من تسعين قاعدة أمريكية تشكل بمعنى ما ضمانة لذلك على ظهر كوكبنا.

ويتصل وثيقاً بهذه المعطيات، من ناحية ثانية، أن الولايات المتحدة تعالج شؤون العالم، من «منظور رسالي» إن صح التعبير.. الأمر هنا يشير إلى تعلق ثقافة الأمريكيين منذ زمن النشأة الأولى، بمفهوم يوشك أن يحاكي الاعتقاد بأن ثمة مهمة كونية موكلة إليهم. وينسب إلى كبار الرواد المؤسسين، مثل جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وجون آدمز، مقولات توحى بهذا المعنى. وفى مرحلة أقرب، قال الرئيس الأسبق تيودور روزفلت المتوفى عام 1919 إن «أمركة العالم هو مصير أمتنا وقدرها». وليس لدينا راهناً ما يؤشر للتخلي عن هذا الاعتقاد، وربما كان العكس هو الصحيح، فالمصالح والتأثير الأمريكيان مبثوثان في شتى أنحاء المعمورة.

قبل ذلك وبعده، تتعارض مفاهيم التراجع والاعتكاف الأمريكي مع سرعة توجه واشنطن لإبرام أنماط من التحالف والشراكات الدفاعية، ولعلها الهجومية، قبل أن يلتقط الخلق أنفاسهم جراء الانسحاب من وسط آسيا وغربها. هذا ما حدث مع ما يدعى بتحالف «أوكوس»، الأنجلوساكسوني، مع كل من بريطانيا وأستراليا. العالم هنا بصدد خروج أمريكي من موضع إلى تمركز في موضع آخر. وبغض النظر عن أهدافه المعلنة والخفية، يظل هذا التصرف نموذجاً ومثالاً على ما يحمله المستقبلين القريب والمتوسط من نيات أمريكية تجاه العالم.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email