حتى لو كان الوطن سفينة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد نختلف على تعريفه، لكننا لن نختلف على حبه. إنه الوطن، فحب الوطن من المسلمات التي لا تقبل الاختلاف عليها. نولد به، نعيش فيه، ونموت عليه. الأوطان لا تقاس بالأميال التي تمتد عليها. الأوطان تقاس بالمساحات التي تحتلها في قلوبنا، ورغم صغر أحجام القلوب، إلا أنها يمكن أن تحمل داخلها أوطاناً مساحاتها ملايين الأميال المربعة. هذا سر لا يمكن أن يدركه إلا من عرف قيمة الوطن، فالحياة دون وطن لا تستحق أن يطلق عليها حياة.

على ظهر السفينة «فرجينيان» كانت ولادته. وفي قاعها تم العثور عليه. لم يعرف هو ولا أحد ممن كانوا على ظهر السفينة أبويه. عثر عليه بحار يدعى «داني بوودمان». وجده ذات صباح حين نزل الركاب جميعهم في بوسطن. ربما كان عمره عشرة أيام، ليس أكثر. لم يكن يبكي، بل كان مطمئناً، بعينين مفتوحتين، داخل تلك العلبة. كان أحدهم قد تخلى عنه في صالة الرقص المخصصة للدرجة الأولى. على البيانو. إلا أن ذلك الشخص لم يكن يبدو من المنتمين للطبقة الأولى. جرت العادة أن يفعلها أحد المهاجرين. تلد إحداهن خلسة، في مكان ما تحت الجسر، ثم يتركن المولود هناك. ليس لأنهم أشرار، بل لأنهم كانوا يجابهون واقعاً قاسياً وفقراً مدقعاً.. كانوا يتركونهم على متن السفينة، عسى أن يخفف المهاجر عنه عبئاً زائداً، فالطفل، بالنسبة إليه، فم مفتوح، عليه أن يشقى لإشباعه، ومشكلة عويصة في مكتب الهجرة.

هكذا بدأت حكاية «ت. د. ليمون» الذي وُلِد وعاش ومات على ظهر السفينة «فرجينيان» في قصة الكاتب الإيطالي إلِسَّاندرو باريكّو «1900 مونولوج عازف البيانو في المحيط». كانت أم «ت. د. ليمون» قد وضعته على آلة بيانو في صالة رقص الطبقة الأولى، على أمل أن يتبناه أحد الأغنياء ليجعله سعيداً طوال حياته. كانت خطة موفقة، لكنها أتت بنصف النتيجة. لم يصبح ثرياً، ولكنه أمسى أمهر عازف بيانو، ولذلك قصة، مثلما لتسميته «داني بوودمان ت. د. ليمون 1900» قصة وراءها البحار الزنجي الذي قرر أن يضيف إليه اسمه ورقم 1900 لأنه وجده في أول يوم لعين من هذا القرن الجديد، على حد قوله. بعد ثمانية أعوام أصبح 1900 يتيماً للمرة الثانية عندما توفي داني على حين غرة، وقد سافر بين أمريكا وأوروبا قرابة الخمسين مرة. كان المحيط بيته، أما اليابسة؛ فلم تطأها قدماه يوماً، رآها مراراً، من الموانئ، طبعاً، لكنه لم ينزل إليها أبداً. كان داني يخشى أن يسلبوه الصبي، بحجة الوثائق والتأشيرات وأمور من هذا النوع.

بعد 32 عاماً من الإقامة المتواصلة في البحر على ظهر السفينة «فرجينيان» فاجأ 1900 صديقه عازف البوق بقوله: «حالما نصل إلى نيويورك، بعد ثلاثة أيام، سأنزل من هذه السفينة»! أصيب عازف البوق بالدهشة. أراد أن يعرف لماذا، لا بد أن يكون هنالك سبب ما، فالمرء لا يعيش اثنين وثلاثين عاماً على ظهر سفينة؛ كي يقرر هكذا فجأة، أن ينزل عنها. كأن شيئاً لم يكن. «عليّ أن أرى شيئاً ما من هناك، في الأسفل» قال 1900. «وما هو هذا الشيء؟» سأل عازف البوق. «البحر» قال 1900. «البحر؟!» سأل عازف البوق. «البحر» أجاب 1900.

«تخيلوا. كان بإمكانكم أن تتوقعوا أي شيء عدا هذا. لم أكن أريد أن أصدق، كانت كأنها مزحة ثقيلة. بل إنها ترهة القرن» قال عازف البوق. «أنت لا ترى إلا البحر منذ اثنين وثلاثين عاماً، يا 1900» أضاف. «من هنا. لكنني أريد أن أراه من هناك. سيكون مختلفاً إذا ما رأيناه من هناك» قال 1900. «حسناً. انتظر أن تصل إلى الميناء. تقف لبرهة على رصيفه، فترى البحر، سيبدو نفسه» قال عازف البوق. «كلا، سيكون مختلفاً» قال 1900. تراجع 1900 عن قراره بالنزول عن السفينة في اللحظة الأخيرة. ولم يعرف أحد السبب.

بعد ستة أعوام نزل عازف البوق عن السفينة، بينما بقي 1900 عليها. بعد سنوات اندلعت الحرب. عادت الفرجينيان من الحرب معطوبة، إذ استخدموها مستشفى متنقلاً، وساءت أحوالها حتى قرروا تدميرها. رسا الطاقم المتبقي في بلايماوث، ملؤوها بالديناميت، وكانوا سيفجرونها في عرض البحر عاجلاً أم آجلاً كي ينتهوا منها. 1900 لم ينزل من السفينة.

نهاية القصة حزينة، لكنها معبّرة. فيها يتجلى حب الوطن كأفضل ما يكون، حتى لو كان الوطن سفينة عائمة في عرض البحر.

* كاتب وإعلامي إماراتي

Email