كوكب الزهرة محطتنا القادمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل سنتين من هذا التاريخ، وتحديدًا في الأوّل من أكتوبر عام 2019، وعلى صفحات جريدة «البيان» الزاهرة كتبتُ مقالة كانت بعنوان «من الصحراء إلى الفضاء: المُحمّدان وتحقيق حلم زايد» صدّرتها ببضعة أبيات في إضاءة الموقف، ثم شفعتُ ذلك بكلمة ثمينة جدًّا للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، رحمه الله، تحدّث فيها عن آماله العريضة بالوصول إلى الفضاء، والإسهام مع العالم المتقدم في هذا الميدان الذي كان حكرًا على الشعوب الأخرى، وكيف أنه ربط، رحمه الله، بين علم الفضاء وبين تجسيد الإيمان بعظمة الخالق سبحانه وتعالى، في تعبير فطري وعفوي أصيل عن الرغبة الصادقة والعزيمة القوية في دخول هذا المجال الفسيح الذي يحمل في طيّاته قطع شوط طويل من التقدم، فالبحوث الفضائية ليست بالمجال السهل الذي يمكن تحقيقه بمجرد الآمال والأمنيات ودفع الأموال، بل لا بدّ من الانخراط الكامل وبكل قوة وجسارة في بناء الإنسان القادر على إنجاز المهمة، وهذه هي الخطوة الصعبة التي تحتاج إلى إرادة لا تعرف المستحيل، وعزيمة متوقدة مثل الجمر لا تعرف التردد، وإيمان عميق بالثقة بالنفس وعدم الشعور بالدونيّة والضعف والسلبية تجاه هذا التحدي الخطير الجليل.

ومضى الشيخ زايد رحمه الله إلى الدار الآخرة، وسلّم الأمانة إلى الرجال الشجعان الذين ربّاهم على عينه، وغرس في قلوبهم حب الوطن والسعي الدائم في رفعته، فما خيّبوا له ظنّا، وما خرموا له وصية بل اندفعوا كالصقور ينفّذون الحلم، ويفتتحون الآمال الجديدة، وكان من بين أهم المشاريع مشروع الفضاء الإماراتي الذي عمل مثل موجة القاع التي تُنجز جميع المطالب وهي مختفية تحت ماء البحر ثم تظهر فجأة بحيث لا يقوى على ردّ اندفاعها أيّ عائق، وهكذا كانت مسيرة مشروع الفضاء الإماراتي حيث بهرت الإمارات العالم حين أرسلت أوّل رائد فضاء إماراتيّ إلى محطة الفضاء الدولية التي هي أعظم منجز تقنيّ إنساني؛ هو رائد الفضاء هزّاع المنصوري الذي رفع رأس الوطن عالياً في قلب السماوات العالية عام 2019، وفي تلك المناسبة كتب صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، كلمة تفوح بعطر الفخر والمجد قال فيها: «اليوم نحتفل بانطلاق أول رائد في مهمة تاريخية إلى محطة الفضاء الدولية، إنجاز إماراتي نفخر ونُهديه للأمتين العربية والإسلامية».

ثم كانت الخطوة الكبرى مع «مسبار الأمل» بعد حوالي عشرة أشهر من رحلة المنصوري وتحديدًا في 20/‏‏7/‏‏2020م حيث أطلقت الإمارات أول مسبار عربي إلى الفضاء الخارجي للدخول في مدار المريخ، والتموْضُع في نقطة لم يسبق لأي مسبار الدخول فيها لإجراء المزيد من البحوث العلمية الخاصة بالفضاء بعد قطع 493 مليون كم، حيث سيظل المسبار في مدار المريخ لمدة 687 يوماً لإنجاز المهامّ الموكولة إليه.

وتأسيساً على الجهود المضنية المثمرة في مجال علوم الفضاء تواصل الإمارات التقدم نحو مواقع جديدة في هذا المجال البالغ الحيوية، ومع إطلالة مرحلة الخمسين الجديدة للدولة، أعلن صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد عن مهمة ضخمة جديدة ستنهض بها فرق العمل في المشروع الفضائي حيث كتب على حسابيه في تويتر وإنستغرام كلمة تحمل بشارة تليق بما تمرّ به الإمارات من ملامح العافية والرغبة القوية في استئناف مسيرة الحياة القوية الفاعلة، حيث ستكون الإمارات على موعد مع كوكب «الزهرة» ليكون المحطة الثانية للاستكشاف بعد كوكب المريخ، بالإضافة إلى سبعة كويكبات أخرى ستشملها الرحلة، مع تنفيذ أول هبوط عربي على كويكب في ختام الرحلة التي ستستغرق 3.6 مليارات كم بما يساوي سبعة أضعاف الرحلة التي سيقطعها «مسبار الأمل» في رحلته حول المريخ.

وتعقيبًا على هذا الخبر السارّ المُحفّز للقوى والطاقات كتب صاحب السموّ التعقيب التالي لإضاءة الحدث بقلمه وكلماته النافذة في صميم القلب حيث قال: «مسيرتنا في مجال الفضاء ما تزال في بدايتها، ورحلاتنا مستمرة، ولدينا مشاريع علماء فضاء، ورواد فضاء ومركبات فضاء» ليجمع صاحب السموّ في هذه الكلمات بين أخلاقية التواضع وبين استشراف المستقبل حين يكشف عن موقع المسيرة نحو علوم الفضاء، وأنه ما زال في البدايات، وفي هذا أعظم الحثّ على البلوغ بهذه المشاريع أقصى النهايات، لكنّ صاحب السموّ لا يكتفي بمجرد ذكر الموقع البحثي لمشاريع الفضاء بل يؤكد على العزيمة الصادقة لاستئناف المسيرة من خلال التصميم على استمرار الرحلة، والعمل الجاد على تجهيز أهمّ معطيات علم الفضاء المتمثلة في الرواد والعلماء والمركبات، فإذا تمّ الوصول إلى هذه المرحلة فإن الإمارات تكون في مسارها الصحيح في تحقيق مشروعها الفضائي الذي كان حلماً جميلاً قبل خمسين عاماً.

ثم ختم صاحب السموّ هذه التدوينة الثمينة بموقف نابع من إحساسٍ عميق بالفخر بمجد العرب الزاهر الذي كان لهم حين كانوا سادة الأمم فقال: «ثلث نجوم السماء كانت تحمل أسماء عربية، لأنّ العرب كانوا رواد علم الفلك، مهمتنا استئناف حضارتنا العربية، وإذا لم نتحرك اليومَ، فمتى؟» ليكون هذا السؤال الأخير هو المغزى الأعمق لهذه التدوينة الرائعة التي حرص صاحب السمو في نهايتها على الإشادة بمجد العرب العلمي، والرغبة الصادقة في استعادة أمجادهم الزاهرة، ولقد سبق لصاحب السموّ أن خاض معتركًا صعبًا في هذا المجال حين استعاد الخيول العربية الأصيلة إلى موطنها العربي الأصيل، وهاهو يريد للتجربة أن تأخذ شكلاً أكثر عمقاً من خلال علوم الفضاء التي هي ذروة التقدم العلمي للإنسان الحديث، لكنّ صاحب السموّ، وبما جُبل عليه من قوة الإرادة وعدم الاعتراف بالمستحيل، لا بُدّ أن يبلغ بعون الله هذا المراد، ويعود للعرب مجدهم الكبير في جميع العلوم والمعارف التي أسهموا إسهاماً عظيماً في تشييد بنيانها وترسيخ أركانها حين كانت عزائمهم ماضية كالسيوف، وهممهم متدفقة كالسيول، وخيولهم مُسرجة مضمرة لا تعرف الكسل ولا الخمول، فعسى الله أن يبلغ بنا مراد صاحب السموّ، ويعود لنا ذلك المجد الذي أضعناه بالكسل والتواني والاتكال على إنجازات الآخرين.

وتعضيداً لما كتبه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد، وتعبيراً عن أعمق مشاعر الفخر بأبناء الإمارات، وتعزيزاً للثقة القوية في أنفسهم، كتب صاحب السمو الشيخ محمّد بن زايد آل نهيان، وليّ عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، كلمة بديعة على حسابه في انستغرام ثمّن فيها هذا الإنجاز العظيم، وأكّد على أنّ «إطلاق دولة الإمارات مشروعًا جديدًا لاستكشاف كوكب الزهرة وحزام الكويكبات خطوة جديدة في مساهمتها في علوم الفضاء»، ثم عبّر عن ثقته البالغة بأبناء شعبه حين ختم تدوينته الرائعة بقوله: «نثق بقدرات أبناء الإمارات وطموحاتهم إلى بلوغ أعلى المراتب العلمية بما يخدم مستقبلنا والمعرفة الإنسانية» لتكون هذه الكلمات خير دعم لهذا المشروع الكبير الذي تنهض الإمارات بأعباء تنفيذه بسواعد أبنائها وقدراتهم المبدعة، والسلام على كلّ الوجوه الطيبة التي تسعى في سبيل رفعة الوطن، وإعلاء صرحه وبنيانه.

Email