غيرة الرواتب

ت + ت - الحجم الطبيعي

روت لي إحدى القارئات، حكاية أول راتب تقاضته. بدأت القصة عندما كانت تهم بالدخول إلى غرفة المقابلات الشخصية، فاستوقفتها زميلة مخضرمة وقالت لها، في محاولة لتخفيض سقف توقعات تلك الشابة آنذاك: «لا تتفاجئي، لأن الرواتب في هذه المؤسسة متدنية جداً». لم تدرك تلك الشابة حينها مغزى ما أرادت إيصاله المخضرمة.

وبعد خروجها من المقابلة باغتتها تلك المرأة بسؤال: «ماذا حدث؟ كم حددوا لكِ راتباً»؟ بإصرار لافت! فذكرت الشابة المبلغ ببراءة، ثم فوجئت بأن تلك المرأة «النصوحة» قد استشاطت غضباً، فقالت: كيف منحتك اللجنة راتباً أعلى مني وأنا أقدم منك في هذه المؤسسة، فلم تتمالك نفسها، فهمّت إلى لقاء المدير العام وعبرت عن غضبها وسط ذهول الشابة، التي يبدو أنها قد تلقت الدرس الأول في ضرورة عدم الإفصاح عن الراتب لكائن من كان، مهما تظاهر المرء بأنه لا يكترث أو أن راتبه أعلى بكثير. فالغيرة ليست مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية فحسب، بل هي مغروسة في وجدان كثير من المهنيين. ولذلك فإن كثيراً من المؤسسات تعتبر الإفصاح صراحة عن قيمة الراتب من «التابوهات» المحرمة نظراً لما يحدثه ذلك من مشكلات لا نهاية لها في بيئة العمل.

ومن الأسباب التي تحاول المؤسسات تفاديها قضية تفاوت «المعاشات»، فما زالت المرأة في أكثر المجتمعات تقدماً كالولايات المتحدة الأمريكية تتقاضى نحو 77 في المائة من راتب الرجل أي أنها أقل منه بنحو ربع راتبه (23 ٪). وفي منطقتنا العربية، كلما ارتفع المرء في السلم الإداري زادت صدمته من تدني الرواتب بين الجنسين.

كما أن هناك تحدياً ينساه أو يتناساه البعض، وهو أن الرواتب حتى بين الجنس نفسه تتفاوت لاعتبارات مرتبطة بالشواغر الوظيفة، ومدى صعوبة ترقية أحدهم في أوقات معينة، في حين يحظى آخر بترقية قبل زميله. كما أن هناك من يرتكب مثلاً مخالفة إدارية أو يوجه إليه إنذار شفهي أو مكتوب، أو يخفق في مهمة جوهرية فيؤدي ذلك كله إلى تأخر نيله زيادة في الراتب أو ترقية في المسمى الوظيفي. وقد يثير هذا الأمر حفيظة البعض لأنهم يقارنون زملاءهم باعتبارهم متشابهون في كل شيء، كأن يستندوا على سنوات الخبرة وكأنها أساس كل مقارنة.

وهناك حقيقة يجهلها كثير من الناس. وهي أن المؤسسات تتبنى استراتيجيات مختلفة في الرواتب. فإذا ما قررت عمل دراسة رواتب السوق مقارنة بما تقدمه فإنها ستجد نفسها أمام ثلاثة خيارات، إما تطبيق سياسة التفوق على المنافسين lead policies وذلك عندما تحاول مؤسسة صاعدة أو جديدة استقطاب كفاءات السوق بحزمة رواتب وحوافز مادية.

وكذلك الحال مع الدول التي تريد أن تنافس منافسيها الذين يستقطبون الأكفاء العاملين لديها. والسياسة الثانية هي match policies أي محاولة مسايرة المنافسين أو «ردم الهوة» بين ما تمنحه وبين الآخرين لتقلل من الإحباط الذي ينتاب العاملين نتيجة لذلك التفاوت. والسياسة الثالثة يطلق عليها «التأخر عن الركب» عمداً أي lag policies وذلك عندما يصبح الأداء المادي في أوج تدهوره.

وربما نشاهد المزيد من هذه السياسات بعيد جائحة فيروس «كورونا» في محاولة لتجميع الجهات العامة والخاصة لقواها بتخفيض التكاليف أملاً في انطلاقة جديدة لاحقاً أو لضمان بقائها على قيد الحياة، في وقت تهاوت فيه كبريات المؤسسات بعد خروجها من مضمار السباق.

إذن ستبقى قضية الرواتب ومشكلاتها أزلية، فهي ليست مرتبطة بوظيفة معينة، بل بظروف متعددة. فهناك من يتقاضى رواتب زهيدة لكنه يقوم بعمل جبار يفخر به، لكنه ربما في لحظة ضغط أو ألم نفسي تثور ثائرته. فرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يتقاضى نحو 6666 جنيهاً استرلينياً شهرياً، بحسب ميزانية عام 2021 (أو نحو 9.4 آلاف دولار)، وبعد دفعه للضريبة سوف يصبح راتبه مقارباً لشاب يعمل في القطاع العام بدولة الكويت بخبرة لم تتجاوز خمس سنوات. تخيل شعوره وهو في غمرة الضغوطات النفسية ليشعر أن هناك من يتقاضى مبلغاً مساوياً له مع فارق حجم الضغوطات والتعرض للهجوم الإعلامي والصحافي الجارح على مدار الساعة، فضلاً عن التحديات الداخلية والخارجية لبلاده.

خلاصة القول، مهما كان راتب المرء فليس من الحكمة البوح به تحديداً في بيئة العمل «المفعمة بالغيرة». وهناك فارق بين تخمين الزملاء وتصريحنا صراحة بقيمة الراتب.

Email