الرؤية والرائي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يختلف العقلاء على أن الإنسان المتميز هو ذلك الإنسان الذي يمتلك رؤيته الخاصة به والتي بها يتميز عن الآخرين، وحين نطالع في أدبيات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، لا نكاد نشكّ في أنّ هناك مزجاً باهراً بين الإنسان والرؤية بحيث يمكننا أن نلخص جوهر فكر سموه في هذا الموضوع بالعبارة التالية: «قلْ لي ما رؤيتك، أقلْ لك مَن أنت»، ولسموه إسهامٌ عميق التأثير في فلسفة الرؤية، عبر عنها في كثير من أحاديثه وكتاباته، لا بل إن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد كتب كتاباً كاملاً يحمل عنوان «رؤيتي: التحديات في سباق التميز» تأكيداً على عمق هذه الفكرة في التكوين العقلي والروحي الثقافي لسموه، ولقد جعل الفصل الثاني من هذا الكتاب الثمين بعنوان «الرؤية» أودعه خلاصة نظره العميق في فلسفة الرؤية، حيث جمع على نحوٍ متميز بين فكرة العلم والفن وأنهما يشكلان مفهوم الرؤية الثاقبة للقائد، ليجمع من خلال هذه الثنائية بين الموهبة والعلم في تشكيل الرؤية الخاصة بالإنسان.

في هذا السياق من الاهتمام بفكرة الرؤية، نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على حسابه في «تيك توك» مقطعاً يفيض بنبرة القوة والثقة والعزيمة المحتدمة، ركّز فيه على أهمية الرؤية في المشروع الذاتي للإنسان، والمشروع العام للدولة، وهي بحقٍّ واحدة من أروع الومضات القيادية التي تُلهم الأجيال المعنى الصحيح للرؤية، وتستنهض الهمم نحو مزيد من العطاء والإبداع والتسلح بالرؤية الواضحة الواسعة البعيدة الأفق.

( الواحد اللي عنده رؤية، ويمشي صوب رؤياه) بهذا الوضوح الحاسم يفتتح سموه هذه الومضة، مؤكداً أنّ امتلاك الرؤية الذاتية هو المحفز الصحيح للسير في طريق تنفيذ الرؤية، لأن التنفيذ بحسب سموه هو الخاصية الحاسمة في موضوع الرؤية، كما جزم به في فصل «الرؤية» الذي سبقت الإشارة إليه، حيث يقول: «لكن الخاصية الحاسمة التي يجب أن تتوافر في الرؤية هي التنفيذ، وليس مجرد قابلية التنفيذ»، وهو ما يؤكده صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في افتتاح هذه الومضة، حيث إن المشي صوب الرؤية هو المشي صوب التنفيذ، وإلا كانت الرؤية مجرد أمنية لا تسمن ولا تغني من جوع.

(ويتمرّن ويتعلم من أخطائه، يكون رؤيته أوسع وأبعد) ولتعزيز الثقة بالنفس، وبناء الحس القيادي لدى الإنسان، يفسح سموه المجال المعقول أمام الإنسان لكي يصلح أخطاءه إذا ما تعثر في مسيرته، فمراعاة البعد الإنساني مطلوبة جداً في التخطيط والتنفيذ، والحرص على عدم الإرباك هو من جوهر الفكر القيادي الرشيد، لكن بشرط أن لا تتكرر الأخطاء نفسها لأن المقصود هو التعلم من الخطأ من أجل عدم تكراره، فحينئذ ينفتح أفق الرؤية، ويصبح المدى أكثر رحابة واتساعاً، وكلما اتسعت الرؤية ازدادت البصيرة نفاذاً وقدرة على الإبداع.

(تحقيق الأهداف: هذا أمل، وهذا واجب، وهذا عمر، ما في خط نهائي للتطور والابتكار والتميز) وحين يتسع المدى ويتراحب الأفق أمام الرائي يصبح تحقيق الأهداف هو الأقرب للواقع، متراوحاً بين الإحساس بالأمل والإحساس بالواجب، وهذه ثنائية باهرة التأثير في النفس الإنسانية: أن يجتمع في القلب ثنائية الأمل والواجب لأن هذا الإحساس هو الوقود الذي لا ينضب، تماماً مثلما أن العمر مفتوح على المدى لا يوجد له خط نهائي في التطور والابتكار والتميز، فهذا الأفق المفتوح هو الذي يمنح الإنسان الشعور بالأمل الزاهر المُشرق، ويغذي فيه عمق الشعور بالواجب، وحين يجتمع هذان الاثنان تكون الرؤية في أروع تجلياتها.

وبإحساس أبوي فائق الروعة يؤكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على عمق التلاحم بين الأجيال حين يتوجه إلى أبنائه قائلاً: «بيجون غيرنا وبيستلمون مراكزهم، وبيجون غيرهم وبيستلمون مراكزهم بعدهم مع أولادهم وأولاد أولادهم، وخط النهاية ما وصلوه» وهي جملة مفعمة بالتأثر والأمل، وتضخّ في العروق دماء الشباب والحيوية، لتظل الدولة في شبابها الدائم حين يظل الشباب هم القائمون على إدارتها والتقدم بها نحو الإبداع والابتكار، في سيرورة متجددة لا تعرف النكوص ولا التردد لأن المسيرة مفتوحة على أفق رحب لا نهاية له.

(نحنا بعدنا بعيد، نريد نكون من أَخْيَرِ الأمم، من أَخْيَرِ الحكومات) وتأكيدا على كل ما سبق من بثّ روح العزيمة في النفوس يؤكد سموه أن الطريق ما زالت مفتوحة أمام الأجيال المتلاحقة لمواصلة المسيرة ، وكتابة تاريخ الوطن بحروف الوفاء والتواصل، لتكون هذه الدولة بقيادتها وشعبها من أَخْيَر الأمم وأكثرها نفعا وإنجازا، لا سيما وأن الفرصة مواتية، والرياح مسعفة، والحكومة واعية لهذه المطالب والآمال، عازمة على تحقيق المستحيل في سبيل أن تكون من أفضل الحكومات.

(التحديات ما توقفنا، ولكن إلّي يبي يوصل بيوصل) ثم كانت هذه الخاتمة الرائعة التي تشحن الروح بطاقة عجيبة من التحدي في مواجهة التحديات والصعوبات، فالتحديات لا تزيد على كونها عقبة تعترض الطريق ولكنها لا تعطل المسيرة، بل الواجب هو تخطيها، وجعلها فرصة لاكتساب المزيد من الخبرات، لأن الذي يريد ويصمم على الوصول إلى أهدافه فسوف يصل مهما كانت وعورة الطريق، لأن الطريق الذي يخلو من التحديات ليس هو طريق فرسان البناء والإعمار، فعلى هذه النماذج الصلبة، التي يريد لها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أن تتسلم زمام القيادة والمبادرة، تقوم الدول ويعلو البناء ويزدهر التقدم والعمران.

Email