الطبخ على نار هادئة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعرف أكثرنا أن سور الصين العظيم، قد تم بناؤه لصد هجمات القبائل البربرية الشمالية، حيث تناوبت الأسر الحاكمة من أسرة هان، مروراً بأسرة سوي، حتى أسرة منغ، على بنائه، ليمتد من تشنهوانغتاو شرقاً، إلى منطقة غاوتاي غرباً، وجنوباً من منطقة بكين إلى هاندن، بطول يبلغ 21,196 كيلو متراً، ببناء محكم وأسوار عالية، وأبراج مراقبة عديدة، وجند مدججين بالسلاح، على امتداد أبراجه، الأمر الذي جعل فرضية اقتحامه شبه مستحيلة!

الغريب أنّ هذا السور الهائل، تم اختراقه عدة مرات، بهجمات مدمرة للداخل الصيني، ولم يكن ذلك من خلال القفز فوقه، ولكن القضية لم تتعدّ دفع بعض العملات الذهبية لحراس بعض البوابات، ليقوموا بفتحها عن طيب خاطر للجيوش الغازية!

الأمر لا يحتاج لمحاضرات أو أبحاث معمقة، أو هرطقات عُشاق أضواء، فالبلد المتماسك من الداخل، لا يمكن هزيمته أبداً، فالإناء الممتلئ أصلاً، لا يمكن ملؤه بشيء آخر، إلا بعد تفريغه مما به، والمجتمع الذي يتمتع بإرثٍ ثقافي عميق، ولديه اعتزاز بدينه وهويته ومنظومته الخُلُقية، وتزخر ذاكرته برموز وقدوات ملهمة، لا يمكن أن يسقط في امتحانات الضغط الخارجي، ولا أن تبهت ألوانه أمام ريشة التغريب، بل ولو قُدِّر أن يسقط بمنطق القوة، فإنه لا يلبث أن يستمد من تلك الخصوصية ومن ذلك الإرث، طاقة متجددة، لدفع الأقدام الغريبة ودحرها، مهما طال الزمن!

لذا، تكررت قصة اختراق سور الصين العظيم مِن بواباته، وبمعونة حُرّاسه أنفسهم، فالفرد في أي مجتمع، هو أدرى الناس بذلك الكيان، ومِن أين يمكن أنْ يُؤتى، وهو أقدر على إلحاق أذى أكبر بذلك الداخل، لأنه أبعد عن الشبهة، وحتى لا نعمّم النية السيئة المبيّتة، فإنّ البعض يتم استدراجهم للأفكار المفكِّكة لذلك الكيان المتماسك، تحت دعاوى بعيدة كل البعد عن التصريح برغبة التمزيق أو المسخ لهوية ذلك المجتمع!

لن أقول جديداً، إنْ ذكرتُ أنّ أهم مؤسستين لحماية أي مجتمع، هما الأسرة والمدرسة، فهما أشبه بأساسات أي بناء، إنْ كان متماسكاً، كان البناء كذلك، وإنْ كان هشّاً، سقط كل شيء مع أول هزة، والأسرة تقوم أصلاً على الأم، ودورها الخطير في تنشئة الأبناء، بفرضية أنّ الأب مسؤول عن توفير لقمة العيش، فتكون بذرة القيم والأخلاق وأبجديات السلوك، بل ومستويات الطموح، محكومة بشكل رئيس بدور الأم، ثم يُتمَّم ذلك بدور المدرسة، بتعليم وتأسيس وتطوير «المـُمكّنات» لذلك الصغير، ليكون عنصراً فاعلاً في مستقبل مجتمعه.

التركيز على الأم، كان مرعباً، وبأساليب ملتوية، ظاهرها فيه «الرحمة»، وباطنها مِن قِبَلِه «العذاب»، فكان التشجيع على التخلص من ظُلم الرجل، والتمرّد على الصبغة الذكورية للحياة، ورفض قوائم الممنوعات والمحدّدات للحرية التي ينادون بها لها، فكانت وسائل إعلامهم لا تكلّ ولا تملّ من الغمز في الدين الذي يحميها، لكي تكون متاحةً لهم، وما شعار «جسدك ملكك أنت فقط»، إلا أحدها، وأقذرها، لو تمعنّا في مراميه، ونُقِلت المرأة -وظهر ذلك في بلدانهم الغربية أولاً- من عبودية الخالق، إلى عبودية التملّك والموضة، وأضواء الشهرة، و«نعم أنتِ تستطيعين»!

زعزعة الأسرة أكثر كان بالنجاح الكبير في زجّ المرأة في معترك سوق العمل، لتتحوّل الوظيفة من مصدر رزق لتأسيس وديمومة العائلة، إلى حق مكتسب بشكل مجرّد، ولخلو الدور الخطير للأم في رعاية الأبناء، تم إسناد ذلك لمربّيات، وأخرجنَ جيلاً نرى سلوكياته وأخلاقياته على التيك توك، وسناب وأضرابها!

المدرسة على طرف موازٍ، لم تعد وحدها في الملعب، فالمناهج تبدو حائرةً في مجاراة المدارس «الافتراضية»، التي تأخذ أغلب ساعات الأطفال، وتُشكّل كينونتهم وهويتهم، فنتفلكس وأمازون برايم، والبقية، جعلت شرائح كثيرة من الصغار، تنتمي لمجتمعاتنا اسماً فقط، وتخالفه فكراً وسلوكاً واهتماماً، ولا غرابة، ومسلسلاتها تُصوِّر الشيطان ملاكاً يتمرّد على الرب الظالم «تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً»، وتُقدّم الشذوذ في كل زاوية، وكأنه هو الطبيعي، وما سواه هو الشاذ، المصيبة أننا ندفع من جيوبنا لتلك الشبكات، لكي تزعزعنا من الداخل، وتجعل اختراق مجتمعاتنا أسهل من شرب الماء!

إنّ من الواجب أن نهتم لمحور مختلف للأمن الوطني، فالبعد السياسي والاقتصادي والمجتمعي، مهم للغاية، ولكن إغفال الأمن الثقافي، أو التساهل فيه، نذير قلق كبير، فرهان الخصوم الكبار على الجيل القادم، أمّا الجيل القديم، فهم يعلمون صعوبة تليين صلابته، أو استلاب هويته، لكن الناشئة، هم من يتم طبخهم على نار هادئة، فهل ننتبه؟.

Email