مئة وخمسة وعشرون عاماً تفصل بين أول دورة حديثة للألعاب الأولمبية (أثينا 1896)، ودورة طوكيو الصيفية الراهنة، التي حال تفشي وباء كوفيد 19 دون إقامتها في موعدها العام الماضي.

كان من شأن امتداد العمر بهذه الفعالية العالمية المؤطرة في تنظيم وتوقيت معلومين لقرن وربع، أن شهدت تطورات يمكن تقدير اتساع حجمها إذا علمنا أن دورتها الأولى جرت بمشاركة 241 لاعباً من 14 دولة، تنافسوا في 9 ألعاب و43 مسابقة. فيما يشارك في الدورة الثانية والثلاثين الحالية 11656 لاعباً من 206 دول يتنافسون في 35 رياضة و324 مسابقة.

وعليه، قد يصح الزعم بأن المتنافسين اليوم في عالم الرياضة بطوكيو، المحفوفين بسلطة اللجنة الأوليمبية الدولية وقواعدها ولوائحها وتعليماتها، ربما يحملون صفة تمثيلية لعدد من سكان كوكبنا وكياناته، على نحو يفوق القوى المشاركة والممثلة في هيئة الأمم المتحدة، بكل مآثرها وتعبيراتها الظاهرة والخفية التي يدور معظمها في أفلاك عالم السياسة.

الفارق بين هذين الكيانين الهائلين، الرياضي الموسمي والسياسي الدائم، أكبر من إمكان الإحاطة به في عجالة، ولكن مختصر الأمر بهذا الخصوص، أنه عند القياس والمقارنة، وبخاصة لجهة الانضباط والالتزام السلوكي والحركي تميل الكفة لمصلحة كيان الرياضة.

كل المنخرطين في الحركة الأولمبية، مهما كانت مستوياتهم، بدءاً من القارات والأقاليم والدول وانتهاء بالهيئات والأفراد، ملتزمون الميثاق الأولمبي، باعتباره دستور عملهم وأنشطتهم، الجامع للأحكام والقوانين والقرارات التي تقرها الجنة الأولمبية الأم. وكما ألمحنا، مرت مواد هذا الدستور بتجديدات وتحديثات بالتعديل والإضافة أو التقادم والحذف. ومن يتابع من كثب، يلحظ صرامة التعامل مع هذه المواد وفي طليعتها القانون العالمي لمكافحة المنشطات. ومن أجل مراعاة حدود العدالة في هذا السياق، ثمة محكمة للتحكيم الرياضي مقرها لوزان في سويسرا، تمارس دورها باستقلال كامل عن اللجنة الأوليمبية.

على الصعد النظرية والتطبيقية، يساوي هذا الميثاق بين جميع منتسبي الحركة الأوليمبية، ولا تميز أحكامه ولوائحه بين أحد منهم، كبر شأنه بالانتماء إلى قوة عظمى في عالمنا المعاصر أم قل بالانتماء إلى دولة لا يستدل عليها في الخريطة إلا بصعوبة. المحدد الفيصل في التنافس الرياضي، بين الظفر والفوز أو الإخفاق والخسارة، يعود في المقام الأول والأخير للجهد المبذول في الميدان، فليس للرياضيين إلا ما سعوا، الأمر الذي يتم التحكيم والقطع فيه على الملأ وفي التو واللحظة، بالقسطاس المستقيم.

ليس بلا مغزى في هذا المضمار، ما أتاحه التقدم التكنولوجي من أدوات وآليات مساعدة، جعلت للجزء من الثانية على مستوى الزمن وللقليل من السنتيمترات على مستوى المسافة ولبضعة جرامات على مستوى الوزن، قيمة عند التمييز بين أداء وأداء.

هذه المساواة بين أعضاء العالم الأوليمبي، والدقة المتناهية في التقيد بالمواثيق والمعايير، والسرعة في إنجاز الأحكام ومعرفة النتائج وتنفيذها وتوزيع الجوائز والألقاب، لا تتوافر بالحيثية ذاتها لأعضاء الأمم المتحدة ولا لمواثيقها أو قراراتها. لا يتمتع أحد في الأوليمبياد بحصانة الفيتو، ولا يتلكأ أحد في الالتزام بصافرات الحكام، ولا يملك أحد رذيلة التمرد على إشارات بداية اللعبة وانتهائها، وما بين البداية والنهاية من مسموحات وممنوعات. أين هذا المشهد من عالم السياسة؟ وما الذي يحول دون انتقاله، ولو بالعدوى الحميدة، إلى هذا العالم؟! هذا السؤال، بما يضمره من مرارة، راود المرء على مدار مشاهدته ألعاب طوكيو.

ومن التأملات والملاحظات الموصولة بهذه المناسبة، اكتشاف أن لأجساد البشر خصائص وملكات وصفات، إذا روعيت وتم تعهدها بالدربة والمران، المصحوبين بأساليب معينة في الحركة والمطعم والمشرب والصحو والنوم، انطلقت منها تعبيرات شكلية جمالية روحية ولوحات بيانية عملية تجل عن الوصف وتقترب من الخوارق.. تعبيرات تدعو للدهشة وتجعلنا نتساءل عما إن كنا ما زلنا نجهل الكثير مما تكنه هذه الأجساد من طاقات فطرية.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني