الخيل وعطاء القلب

ت + ت - الحجم الطبيعي

للخيل في وجدان صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، مكانةٌ ساميةٌ لا تكاد تُدانيها منزلة، ومنذ أن تفتحت عيناه على هذه الدنيا وهو شديد الاهتمام بها، وافر الحظّ من العناية بشؤونها حتى نشأت بينهما قصة حبّ راسخة تجلّت في هذا الاهتمام الشديد بكل ما يتصل بالخيل من قيم الفروسية العالية من صبرٍ على الشدائد، ومن إصرار على الفوز وانتزاع الصدارة، ومن شجاعة ومروءة وإقدام، فالخيل في عُرف صاحب السموّ ليست حيواناً يأكل الحبوب والحشائش، بل هي كائن فريد يليق به أن يكون في أعمق نقطة من القلب، ويستحقّ أصفى إحساس من المشاعر، ولقد عبّر صاحب السمو عن هذه العلاقة في مجموعة من التجليات الباهرة والممارسات التي تشهد بعمق العلاقة ورسوخ المحبة التي تشدّه إلى الخيل التي ارتضع لبان محبتها منذ نعومة أظفاره حين كان يعتلي صهواتها وهو يخترق الصحراء في طفولته مع والده طيب الذكرى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم طيب الله ثراه، الذي كانت الخيل جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، فحين يريد صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد أن يقدّم صورة نموذجية لهذا الوالد الجليل كان يرسمه بريشة الشاعر الفنان وهو يعتلي جواده الصقلاوي ويتفقد جميع مرافق العمل في دبيّ النشيطة التي كانت تستيقظ كل صباح مع ذلك الباني المؤسس الذي سكب في قلب ولده حب الوطن وإكرام الخيل، ليكون الدرس الثاني في إكرام الخيل ومحبتها على يد والدته طيبة الصيت والذكرى الشيخة لطيفة بنت حمدان رحمها الله، التي علّمته كيف يداوي الخيل الجريحة ويصبر على ذلك، ويحمل مشعل الأمل ليفوز بكل سباق ينهض لإحرازه عبر مسيرته الطويلة مع عالم الخيل الجميل النبيل.

وتأكيداً لهذه العلاقة الفريدة بين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد والخيل، كتب مجموعة من القصائد الباهرة التي تشهد بعلوّ كعبه في الإبداع الشعري وخصوصاً فيما يتعلق بعالم الخيل، فالخيل بالنسبة له لها عالمها الخاص الذي لا يفهم أسراره إلا الفرسان الأصلاء الذين طالت معاشرتهم للخيل حتى أصبحوا يفهمون عنها لغة العين وإشارة الصهوة، ولصاحب السمو في هذا السياق قصيدة جميلة عنوانها عالم الخيل أبدع فيها الإبداع كله في الكشف عن أسرار هذا الكائن العجيب الذي ينفرد بمجموعة من الصفات النادرة التي تجعله جديراً بكل هذا الحب الذي يفور به من قلب صاحب السموّ للخيل، ولم يكتفِ بذلك بل تمّ جمعُ قصائده في الخيل في كتاب خاص عنوانه (قصائدي في حبّ الخيل) جمع فيه عيون قصائده في هذا الفنّ الساحر حيث يُعَدّ صاحب السموّ من خيرة الوصّافين لمشاعر الخيل وعمق علاقتها بصاحبها، وقد سبق لكاتب هذه السطور التوقف عند مجموعة من قصائده في هذا السياق صدرت في كتاب يحمل اسم «صهيل العاديات» ألقينا فيه ضوءاً كاشفاً على التجربة الشعرية العميقة لصاحب السموّ في عالم الخيل على وجه الخصوص، وتجليات الإبداع الشعري وما تختزنه من قيم الفروسية والأصالة والإقدام.

وتجديداً لهذه الذكريات الضاربة في عروق القلب نشر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد مقطعاً جميلاً على حسابه في «تيك توك» من قصيدته الشهيرة (العاديات) اختار منه أجمل المقاطع الشاهدة بعمق محبته للخيل وأبدية هذه المحبة واستعداده الدائم للحب ولا سيّما بعد أن فازت خيله الشهيرة (أديار) في الداربي الإنجليزي وسباق الملك جورج السادس لهذا العام في منافسة شديدة مع خيرة الخيول العالمية، فكتب هذا المقطع الرائع الذي ألقاه بصوته الكاشف عن عمق محبته للخيل وديمومة هذه المحبة إلى آخر الدهر:

فيها الذكا والعِرف والفطنه

بلا كلام أفهم وأحاكيها

وإن غبت عنها دوّرت عني

ريحة ثيابي بس تكفّيها

الضمير في «فيها» راجعٌ إلى الخيل حيث يتحدث صاحب السموّ عن خصائصها الخاصة التي يعرفها هو بحسب خبرته العميقة بعالمها وأخلاقها، فإن صفات الخيل لا تنكشف لكلّ عابر طريق بل هي وقفٌ على المخلصين في حبها، الساهرين على راحتها، فهي تمتاز بالذكاء والمعرفة والفطنة إلى الدرجة التي يفهم عليها فارسها لغتها من دون كلام ويكفيه منها الإشارة الدالة على وصول الرسالة، ولقد قصّ صاحب السموّ حادثة عجيبة في هذا السياق تحدّث فيها عن اللحظات الفاصلة التي همس فيها بأذن الحصان الأعظم في مسيرة صاحب السموّ (دبيّ ميلنيوم) الذي خصّه صاحب السمو بمقالتين هما من أروع ما دبّجته يراعه البليغة وذلك حين شعر الحصان بأن صاحب السموّ يريد منه وعداً بالفوز، فما كان منه سوى أن أعطى إشارة الموافقة ليكون في اليوم التالي مثل الريح القاصف الذي يكتسح كل شيء وينتزع الفوز بمهارة أذهلت جميع المراقبين.

إنّ هذه العلاقة الحميمة التي تجمع بين صاحب السموّ وخيله الأصيلة العِراب جعلها تفتقد غيابه إذا غاب، وتحنّ إليه حين لا يزورها كل صباح، ويمسح على أعرافها كل مساء، فلا تجد شيئاً تعبّر به عن توقها لطلعته البهية سوى ترجيع الحنين إلى رؤيته والبحث عنه في كل الزوايا، وهي لشدة تعلقها به تكتفي برائحة ثيابه لكي تروي شوقها إليه، غير راضية به بديلاً أبداً، فهو فارسها الحبيب وليس مجرد مالك يغذيها ويحفظ عليها صحتها ليوم السباق بل هي تعرف يقيناً أنها في ضيافة فارس كريم يُغليها ويُعْليها ويرفع قدرها المهيوب.

هي مثل شعري ومثل تفكيري

حرّه ولا شيٍّ يساويها

عطيتها لي مرّ من عمري

واللي بقى من العمر بعطيها

وإمعاناً من صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد في صهر المسافة بينه وبين خيله يؤكد في هذا المقطع الرائع أنّ هناك تلاحماً مبدعاً بينه وبين خيله فهي تشبهه في كل شيء ولا سيّما في إحساسه العميق بالحرية، والإبداع من خلال ثنائية الشعر والفكر، وهي بين الخيول تعيش أعمق معاني الحرية والذكاء بحيث لا يساويها شيء في نظر صاحب السموّ، فهو لا ينظر للخيل إلا نظرة أجداده السالفين من فرسان العرب الشجعان الذين كانوا يقدمون الغالي والنفيس في سبيل صيانة خيلهم وربما آثروها على أنفسهم وعيالهم، وها هو صاحب السموّ قد انفرد على المستوى العالمي بامتلاك أعظم اصطبل للخيول قد احترف حصد المركز الأول في جميع السباقات العالمية، فكيف لا يجود لها بأغلى ما يجود به الإنسان وهو ما عبّر عنه في البيت الأخير من هذه القطعة الرائعة من قصيدته حين ترنّم بصوته العذب وبإحساس عميق بالفخر بأنه قد أعطى الخيل كل ما مضى من عمره وما لانت له قناة، وما شعر بأي شيء من التردد بل هو مصمم على إعطائها ما تبقى من عمره السعيد الميمون، فطوبى للخيل بهذا الحب المتدفق في صدر هذا الفارس النبيل الذي علّمنا المعنى العميق للفروسية، وارتقى بها عن مدارج الفوز والخسارة إلى كونها منهج حياة، ومسار تقدم وإبداع وابتكار.

Email