هم.. وليست تونس التي تحتضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

كشفت الأزمة الصحّية غير المسبوقة التي تمرّ بها تونس عن عمق الدمار الذي لحق هذا البلد الآمن والجميل، وهو دمار شمل البنية الأساسية في شتّى القطاعات والمجالات وكذلك البنية التنظيمية في الدولة والمجتمع وجعل من الهستيريا حالة عامّة لدى جلّ المسؤولين الذين تعوزهم المعرفة والدراية في تسيير الشّأن العام وشؤون الدولة.

عشر سنوات من حُكْمِ «الثوار» - الذين بعضهم جاءت بهم جائحة الإخوان وبعضهم الآخر تقمّص عباءتها ومن تبقّى منهم وجد في الانتهازية جسراً يصلهم بأهوائهم ورغباتهم وأحقادهم - كانت كافية لتدمير مقوّمات دولة الاستقلال ومكاسبها وذلك بتواطؤ غبيّ من شريحة «الديمقراطيين» و«الحقوقيين» وبعض اليسار الذي تاهت به الطرق.

عشر سنوات كانت كافية لهؤلاء الحاقدين والمغامرين للقضاء على المنظومة الصحّية رغم صمود أبنائها فتحوّلت من منظومة رائدة في محيطها الإقليمي والحضاري وذلك بفضل السياسة الصحّية الوقائية التي لم تهمل الجوانب العلاجية، إلى منظومة عاجزة وغير قادرة على مواجهة الأمراض العادية فضلاً عن الجوائح والأوبئة.

عشر سنوات كانت كافية أيضاً للقضاء على إدارة الدولة الوطنية التي اجتازت بتونس كلّ الأزمات ليجعلوا منها إدارة بلا كفاءات ولا عقل منير وأصبحت هذه المنارة ملجأ للنطيحة والعرجاء، وما خلّف الضبع إثر ضخّ الآلاف من أتباع «النهضة الإخوانية» فيها تطبيقاً لقانون العفو التشريعي العام.

عشر سنوات شهدت فيها تونس كلّ المآسي ولا تكاد نعثر على حدث مفرح يفرّج كرب المواطن التونسي الذي أضحى مخيّراً بين الموت جوعاً أو كمداً وغمّاً أو بفعل «كورونا» وغيرها من الأوبئة والأمراض. ولعلّ قمّة المأساة التي تعيشها تونس تمثّلت بأنّه حتّى إن حاولت بعض الدول الصديقة والشقيقة المساعدة فستجد صعوبة كبرى في إيجاد مع من ستتعامل لغياب وجود هيكل تنسيقي مكلّف بذلك ولصعوبة أو غياب التواصل بين أركان الدولة في تونس.

والواضح أنّ رئيس الدولة قيس سعيّد يحاول القيام بما من شأنه أن يخفف بعض الشّيء عن هذا الشعب العليل، ولكنّه يكاد لا يحتكم دستورياً إلى آليات قانونية ودستورية تمكّنه من ذلك، وهو ما يجعل من قراراته المعلنة مجرّد شعارات وخطابات لإشهاد الناس على حسن نيّته فقط لا غير، وخصوصا أنه يرفض استعمال أيّ آليّة - وهي موجودة - قد تكون لها تداعيات سياسية على شخصه.

ونعتقد أنّه وفي ضوء غياب هذه الآليات وكذلك في ضوء عدم وجود الحدّ الأدنى من التفاهم مع الحكومة ومع مجلس النواب ونتيجة لسياسات «النهضة الإخوانية» التي بان من الكاشف أنّها مقادة بسياسة الأرض المحروقة كان لا بدّ من اللّجوء إلى بعض الآليات الدستورية لإعطاء بعض الأمل للتونسيين.

ومعلوم أنّ الدستور التونسي يمكّن رئيس الجمهورية في الحالة الاستثنائية من أن يركّز السلطات بين يديه بشروط، وأن يتّخذ التدابير التي تحتّمها تلك الحالة الاستثنائية وذلك في صورة وجود خطر داهم مهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها يتعذّر معه السّير العادي لدواليب الدولة، وهو الشرط الذي يرى الملاحظون والفاعلون السياسيون أنّه متوافر الآن.

وكذلك يمكن أن يكون مجلس الأمن القومي الذي يرأسه دستورياً رئيس الدولة إحدى الآليات التي بحوزة رئيس الجمهورية شريطة تفعيل قراراته ولا ينبغي أيضاً نسيان أنّ رئيس الدولة يمكنه أن يرأس المجالس الوزارية، وطرح ما يراه صالحاً من المواضيع التي يستأنس فيها الأهمّية. إذن، توجد أمام الرئيس التونسي إمكانات للتأثير في سير الأحداث رغم التضييقات الدستورية المفروضة عليه، ولكنّ ذلك يستوجب توافر الإرادة السياسية من أجل المرور إلى الفعل.

فقد جاء في الفصل 72 من الدستور التونسي «أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمرارها، ويسهر على احترام الدستور»، وإنّ التعلّل بأنّ بعض هذه القيود الدستورية عصيّة عن التجاوز أصبح في المخيال المجتمعي غير مقبول.

وفي كلّ الحالات فإنّ الرئيس يحتكم على «طريق ثالث» سالك ولا سلطان عليه سواه وهو خيار حلّ مجلس نواب الشعب وإرجاع الأمانة إلى المواطنين. وإنّه في حال عدم لجوء الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى استعمال صلاحياته كاملة، فإنّ تونس سائرة لا محالة إلى حسم أمرها ولكن لا أحد من المشهد السياسي الحالي يضمن في هذه الحالة استمراره.

تحتفل تونس اليوم 25 يوليو 2021 بذكرى إعلان الجمهورية، وهو يوم يسترجع فيه التونسي معاني هذه الذكرى المجيدة، ولكنّه يستحضر أيضاً مرارة الاغتيالات السياسية ،وسيكون هذا اليوم كذلك يوماً للغضب ضدّ «الاغتيالات» لغياب السياسة الصحّية في مواجهة «كورونا»، وبالطبع فإنّ عجز الطبقة السياسية عن إيجاد الحلول سيكون سبباً في قبرها إذا قرّر التونسيون التحرّك.

Email