أمة تنتظر

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل خمسة أعوام، في مثل هذه الأيام المباركة، يوم الاثنين العاشر من شهر ذي الحجة 1437 هجرية، الموافق للحادي عشر من شهر سبتمبر 2016 ميلادية، كتبت في هذا المكان مقالاً تحت عنوان «أمة تنتحر».

كان المقال عن حال الأمة الذي وصفه الشيخ عبد الله بن بيه، أحد كبار علماء الأمة المعاصرين، بأنه كارثي، قائلاً إننا أمّة تنتحر. بعدها بعامين، وفي مثل هذه الأيام المباركة أيضاً، يوم الاثنين التاسع من شهر ذي الحجة 1439هجرية، الموافق للعشرين من شهر أغسطس 2018 ميلادية، كتبت مقالاً في هذا المكان أيضاً، تحت عنوان «أمة تختنق».

كان المقال عن حال الأمة بعد مضي عامين على المقال الأول. قلت يومها إننا أمة تختنق بأفكار الظلاميين المارقين، الذين يَدْعون إلى العنف والقتل وإبادة الجنس البشري، ويَدّعون أنهم وحدهم من يمثل الأمة، وأن غيرهم ليسوا إلا خارجين عن النهج القويم والملة، وكأنهم هم من تلقى الوحي من السماء، أو من كُلِّف بأداء الرسالة وهداية البشر. واليوم، الاثنين التاسع من شهر ذي الحجة عام 1442 هجرية، الموافق للتاسع عشر من شهر يوليو 2021 ميلادية، ربما يسأل سائل: ماذا طرأ على حال الأمة، وبماذا يمكننا أن نصف حالها؟ فأقول: لا أجد وصفاً لحال الأمة اليوم، أفضل من أنها «أمة تنتظر».

نعم، نحن أمة تنتظر من يقرر لها مصيرها. أمة مرت بكل أنواع الأزمات والانتكاسات والخيبات على أيدي أبنائها، ومن يدّعون الانتماء إليها، وشربت كؤوساً من الذل والهوان على أيدي أعدائها، وما زالت تنتظر أن ينبري لها من يخلصها من آلامها، وينتشلها من هوتها، ويعيد لها مجدها، الذي تناثر غباره بأيدي المتصارعين على الكراسي، والمتطلعين إلى الأمجاد الشخصية على حساب مجد الأوطان، والمخدوعين ببريق الأضواء، وانعكاس الأشياء، والسراب الذي يلوح للماشين في الصحراء.

نعم، نحن أمة تنتظر مَن يخلصها مِن الحيرة والتردد. نقف على رصيف الانتظار منذ قرون، ننظر إلى كل القطارات، وهي تعبر من أمامنا، كأنه كُتب علينا أن نكون آخر الراكبين لقطارات المجد، وأول المترجلين منها. نبحث عن الأسباب، ولا سبب إلا نقص القادرين عن التمام، مثلما قال شاعرنا المتنبي. مرت آلاف القطارات أمامنا، ونحن واقفون، نتأمل العابرين نحو النور ذاهلين، كأن مسّاً شيطانياً أصابنا، فأعمى بصرنا وبصيرتنا. هتف القادة المخلصون: «إن لم تغيّروا ستغيَّرون، إن لم تبادروا إلى إصلاحات جذرية، ستنصرف عنكم شعوبكم، وسيكون حكم التاريخ عليكم قاسياً». لكننا نصمّ آذاننا عن سماع صوت العقل والحكمة، ونغلق أعيننا عن رؤية المستقبل، لأننا ما زلنا أسرى لماضٍ يأبى أن يغادر نفوسنا.

قالها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عام 2004، في كلمته أمام المنتدى الاستراتيجي العربي: «أقول لنظرائي العرب الذين في السلطة: إذا لم تغيّروا فستتغيرون. إذا لم تقترحوا تغييرات جذرية من أجل ترسيخ احترام مدلول الدولة، وتشجيع مبادئ الشفافية والعدل والمسؤولية، فإن حكم التاريخ سيكون قاسياً». لكننا لم نستمع إلى صوت العقل والحكمة، أخذت البعض منا العزة بالإثم، وأخذ البعض الآخر منا الغرور بالقوة، قوة المنصب والكرسي التي اعتقد أنها أشد من الجبال الرواسي، فإذا بها تتهاوى أمام أول هزة، وإذا بالكراسي تتهاوى مثل قطع الدومينو، وإذا بالفوضى تنتشر في كل مكان، وإذا بالصورة تتمزق، وتغدو إعادة تجميعها أصعب مما يتصور أي إنسان.

نعم، نحن أمة ترى الخراب يحدث أمامها، ولا تتحرك لمنع حدوثه. وقد كان الخراب هذه المرة كبيراً، بحجم كل الكوارث التي مرت بها الأمة في تاريخها. لم تكن أنظمة تنهار فقط، وإنما كانت أوطان تباع وتشترى، وبلدان تتقاسمها قوى عظمى، وأخرى أقل عظمة، لم تكن تحلم في يوم من الأيام أن تقع في يدها لقمة سائغة، كما هي واقعة اليوم، ونحن واقفون على أرصفة الانتظار والذهول والدهشة، نسأل: كيف حدث هذا، ولماذا حدث، ومتى حدث؟ ننتظر أن تنتشلنا من حالتنا هذه معجزة سماوية، في عصر لم تعد فيه المعجزات هي الدواء الناجع لأمراض الشعوب والأمم.

نعم، نحن أمة تنتظر أن ترى نهاية للنفق المظلم، الذي تقف حائرة في وسطه، فعسى الأيام المباركة تعود علينا في الأعوام المقبلة، وقد شفيت أمتنا من جميع أوجاعها.

Email