«النهضة» في مرحلة الحرج القصوى

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت تونس مؤخّراً حدثاً قضائياً استثنائياً، ستكون له بلا شكّ تداعيات سياسية هامّة، وقد قرأ البعض فيه الحلقة الأساسية في انهيار منظومة قضائية موازية، تمكّنت حركة «النهضة الإخوانية» من ترسيخها على مدى سنوات من حكمها.

وتمثّل الحدث في أنّ مجلس القضاء العدلي، قرّر «إيقاف القاضي السيد البشير العكرمي عن العمل…» وإحالة ملفّه «فوراً إلى النيابة العمومية (الادعاء العام)، لاتخاذ ما تراه صالحاً من إجراءات»، والقاضي البشير العكرمي، له ولاية عامّة في كلّ القضايا الإرهابية، وعلى كامل التراب التونسي.

وقد جاء هذا القرار في بيان لمجلس القضاء العدلي - وهو أعلى هيئة قضائية تتولّى التسيير والإشراف على المرفق القضائي- إثر تقرير صادر عن التفقدية العامّة لوزارة العدل التونسية، أشار إلى تجاوزات خطيرة قام بها القاضي بشير العمومي، في عديد القضايا، وبالخصوص تلك المتعلّقة بعمليات إرهابية، وبالأخصّ في ما تعلّق بملابسات اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، وهو الأمر الذي حاول القاضي المذكور نفيه جملة وتفصيلاً، خلال جلسة الاستماع إليه.

والمعلومات تفيد بأنّ وزارة العدل حاولت بضغط من «النهضة الإخوانية»، سحب التقرير المذكور، ولكنّها فشلت في مسعاها، ووزيرة العدل الحالية تواجه شكاية تقدّمت بها هيئة الدفاع عن الشهيدين في الموضوع.

وبحسب المعلومات المتوفّرة، فإنّ حركة «النهضة الإخوانية»، حاولت بكلّ الطرق منع اتخاذ هذا القرار، لوعيها التامّ بخطورته على مستقبل وجودها السياسي، ولما قد يسبّبه من «مهالك» قضائية بالنسبة لبعض المنتسبين إليها، وهم كُثْرُ، بحسب ما يتردّد من معلومات.

وأمّا الخطورة الأكبر لهذا القرار الصادر عن مجلس القضاء العدلي، فهو أنّه يؤكّد الفكرة السائدة في تونس، بأنّ المنظومة القضائية مُخترقة في جزء منها من أطراف سياسية لحماية الإرهاب، أو للضغط على الخصوم السياسيين بالملفّات، وهو تقليد كان دارجاً وبادياً للعيان طوال فترة حكم «النهضة الإخوانية»، وبالأخصّ خلال الفترة التي كان فيها رئيس الحكومة السابق، يوسف الشاهد، حارساً لمصالحها، وفي المقابل، وجب التأكيد على أنّ الأغلبية الساحقة من القضاة في تونس، وقفوا ضدّ ضرب استقلالية القضاء ومصداقيته.

وللعلم، فإنّ القاضي المذكور، هو محلّ ملاحقة قضائية أيضاً من طرف هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، التي قامت بعمل جبّار على مدى السنوات، من أجل كشف اختراقات جماعات «الإخوان» وحلفائها للمنظومتين القضائية والأمنية.

وهي اختراقات لم تقتصر إثارتها وإدانتها على المحامين، بل إنّ هيئات قضائية مهنية وشخصيات قضائية سامية، عبّرت في عديد المناسبات عن رفضها ضرب استقلالية القضاء، وتوظيفه من طرف جهات سياسية، ربطت مصالحها بالفساد المالي أو بالإرهاب. وإنّ هذا التطوّر الهامّ، يمثّل في تقدير الملاحظين منعرجاً خطيراً، سيفتح أبواب جهنّم أمام طيف من المنتمين لجماعات «الإخوان» وحلفائها، لأنّ الاعتراف العلني والموثّق بأنّ «الجهاز القضائي»، متمثّلاً في المسؤول الأوّل عنه، يمكن أن يكون «متواطئاً» مع الإرهاب والإرهابيين، أو «مهملاً» في التعاطي مع بعض الملفّات، أو مُتلفاً لبعض الوثائق - وبقطع النظر عن المآلات - هو إدانة قد يكون من شأنها تحريك إثارة القضايا في تونس وفي الخارج.

وإنّ في تصريح المحامي الفرنسي فليب دي فاي، الذي ينوب ضحايا عملية متحف باردو الإرهابية التي جدّت يوم 18 مارس 2015، والتي ذهب ضحيتها 21 سائحاً أجنبياً وأمنياً تونسياً، ما يؤكّد هذا المنحى، إذ أكّد بعد صدور القرار على «تغلغل الفساد» وعلى «تسييس» المنظومة القضائية، وعدم استقلاليتها، وشدّد على أنّها «مخترقة» من قبل مجموعات محسوبة على «الإخوان».

ولا يخفى أنّ موضوع الإرهاب على درجة كبيرة من الحساسية دولياً، وعديدة هي الاتفاقيات الدولية التي تفتح المجال إلى مقاضاة المتورّطين في الإرهاب، مشاركةً أو احتضاناً أو تواطُؤاً، وإنّ هذه الحساسية تتضاعف عندما يتعلّق الأمر باختراقٍ ممكنٍ لأجهزة الدول الحسّاسة من طرف الإرهاب، ولوبيات الفساد المالي، وهو ما قد يفتح باب الملاحقات القضائية في تونس، وفي أيّ دولة خارجها لأنّ الاختصاص الترابي الوطني، يسقط في مثل هذه القضايا.

وقد يكون ذلك مناسبة أيضاً كي تراجع بعض الأطراف الدولية مواقفها من جماعات التطرف، وتسحب عنها الدعم.

إنّ تونس تبرهن مجدّداً، أنّ نسيجها المجتمعي، هو صمّام الأمان ضدّ التطرّف والإرهاب، وبأنّه يستحيل على هذا البلد أن يكون محكوماً بمَنْ لم يقطع مع هاتين الآفتين.

إنّ «النهضة الإخوانية» بلغت الآن مرحلة الحرج القصوى، وهو نفس مصير شركائها، إن لم يتداركوا أمرهم قبل فوات الأوان، وهذا الكلام قد ينطبق على مَنْ في «النهضة»، يريد التحرّر مِنْ إرث «الإخوان»، وتسلّط وجبروت المتحدّثين باسمهم.

Email