قلوب البسطاء.. كلمة في ثقافة التواضع

ت + ت - الحجم الطبيعي

في القصة الثالثة والأربعين من كتاب «قصتي: خمسون قصة في خمسين عاماً» والتي تحمل عنوان «رحيل راشد» يترك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، جميع الشخصيات الكبرى التي حضرت الجنازة المهيبة لوالده الشيخ الجليل راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، ويلتقط بقلبه الكبير موقفاً إنسانياً رفيع الدلالة على حسه الشاعري المرهف حين يلمح الدموع الغزيرة الصادقة في عيون العمال البسطاء الذين ودّعوا راشداً بقلوب تتفطر حزناً وأسى لفراق إنسانٍ عظيم القلب خلطهم بشعبه، ومنحهم أروع مشاعر الإحساس بالأمان، واستخرج من قلوبهم أصدق مشاعر الانتماء لدبي، مدينتهم التي بنوها بعرق الجبين، وأحبتهم بقلبها الصادق الكبير الذي اتسع للإنسانية جمعاء، فكان ذلك مشهداً فريداً سجله صاحب السمو بريشة الفنان الذي يلتقط عمق الإحساس الإنساني في حالة الفقد والحزن، وختم بهذه الكلمات النابعة من أعمق نقطة من قلبه المكلوم بفراق والده وشيخه وملهمه هذه القصة الشجية التي تحكي حزن الكبير على الكبير، لتكون هذه الكلمات المشعّة بنور الوفاء خير خاتمة تحكي عمق الحب الساكن في قلوب البسطاء لفقيد البلاد الكبير، ولتكون وجهاً حقيقياً لأخلاقية التواضع التي هي جوهر شخصية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الذي أحب الإنسان واحتفى بصدقه الأخلاقي في لحظة مريرة ليسجل هذا الموقف الإنساني النبيل بقوله:عندما شاهدت الدموع في عيون العمال البسطاء، أدركت أن تجربة الشيخ راشد لامست قلوب الجميع، وبأن تواجده وجولاته الصباحية لم تكن فقط على المشاريع بل حتى مع البسطاء، وأن بصمته التي تركها في كل حجر وزاوية في دبي التي أشرف على بنائها بنفسه ستبقى في ذاكرة بلده وشعبه للأبد.

واستلهاماً لسيرة هذا الوالد الكبير المتواضع، ومن قبله سيرة جده الشيخ سعيد، يسير صاحب السمو على خطى هؤلاء الآباء الكبار في أخلاقهم، ويمارس حياته السياسية والإدارية من خلال نافذة القلب التي يطل منها كل يوم على شعبه الوفي، ولا يكتفي بذلك بل ينزل إلى حيث هم جالسون أو يعملون فيتفقد أحوالهم، ويسألهم عن ظروفهم، ويقترب من مشكلاتهم، ويأمر بحلها فوراً مجسداً بذلك نموذجاً متفرداً في علاقة الراعي بالرعية والحاكم بالشعب، وكثيرة بل هي كثيرة جداً المواقف الدالة على أخلاقية التواضع في شخصية صاحب السمو ولا سيما مع الناس البسطاء حيث يحرص على رفع معنوياتهم وجبر قلوبهم، وشد أزرهم، وإشعارهم بأهميتهم في تفكيره وأنهم لا يغيبون عن خياله وعقله، ومن أجمل مواقفه حين تراه مفترشاً الأرض يخاطب رجلاً طاعناً في السن يسأله عن أحواله وحاجاته من هذه الحياة، فيتهلل وجه الشيخ الكبير فرحاً حين يعلم أنه بحضرة صاحب السمو نائب رئيس الدولة، ورئيس مجلس وزرائها، وحاكم إمارة دبي، ويفيض وجهه بالسرور ويتلعثم بكلامه من هول المفاجأة، فالشعوب العربية تحديداً في أغلب البلاد محرومة من هذه اللمسة الإنسانية في طبيعة العلاقة بين الحاكم والرعية، وتفتقر إلى الشعور بالأمان من هذه الناحية التي هي صمام الأمان في إشاعة روح الثقة بين الحاكم والشعب.

إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما الذي تتركه هذه المواقف في نفوس الناس سواء الذين عايشوا هذه المواقف مباشرة، أم الناس العاديون الذين يرقبون المشهد ويستبشرون خيراً بهذا السلوك الأخلاقي الرفيع لقائدهم ؟ فمما لا شك فيه أن هذه المواقف الإنسانية تعمق الإحساس باحترام الإنسان في هذه البلاد الطيبة، وتؤكد رسوخ التقاليد الأخلاقية الرفيعة في الروح العامة للشعب الذين ورثوا هذا الإرث النبيل في التعامل فيزدادون حرصاً عليه، وتنمية له، فضلاً عن شعور الجميع بأن الأبواب مفتوحة أمام أي إنسان للوصول إلى القائد الذي يشيع بهذه السلوكيات الراقية إحساساً بالأمان، ويصهر المسافة بينه وبين شعبه، ويرسخ نمطاً رائعاً من العلاقة الصحيحة القائمة على الثقة والولاء النابع من قلب صادق، ولا يعرف التاريخ أن قائداً متكبراً أفلح في الدخول في قلب أي إنسان، لأن القلوب الإنسانية الطيبة الأصيلة موصدة الأبواب أمام هذا النمط القاسي من الحكام، وهي تعرف من الذين يستحقون السكنى في القلب والخلود في الوجدان الصافي النبيل.

Email