الاحتضار التاريخي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ينشغل البشر بحب البقاء، وهذا أمر من طبيعة النفس البشرية، غير أن البقاء، أي بقاء، مؤقّت ومرحلي، فالحياة البيولوجية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والفكرية سيرورة لا تتوقف أبداً، وإذا ما وقع بعض الناس في ظن البقاء الدائم، فإنهم يواجهون نهايات غير محمودة بالمرّة.

فالتاريخ يشهد تحولات، بطيئة كانت أو سريعة، وغالباً ما تمرّ الوقائع بفترة احتضار لتخلي المكان إلى الجديد. والاحتضار، لمن لا يعلم، سبات الحياة ما قبل الفناء. إنه مقدّمة للموت. وقد يكون الموت دون احتضار، أما الاحتضار التاريخي، فنقصد به تلك المرحلة التي تسبق زوال واقعة تاريخية ما بالضرورة، وقرب انتهاء مرحلة تاريخية قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.

ولو عدنا إلى عمر الدولة عند ابن خلدون وعلاقتها بمفهوم العصبية، لوجدنا أن زوال الدولة لا يكون إلا بضعف العصبية التي قامت عليها الدولة. والدولة عند ابن خلدون، هي ذاتها السلطة، إذ لم يكن التاريخ قد شهد بعد التمايز بين الدولة والسلطة، فبعد وصول الدولة إلى مرحلة الازدهار وحياة الدعة والرفاه، تبدأ مرحلة الانحدار بترهّل العصبية التي قامت على أساسها الدولة، وهكذا حتى زوالها.

ولا شك أن الفترة التي تسبق زوال الدولة - السلطة، هي التي نطلق عليها مرحلة الاحتضار التاريخي التي تطول وتقصر بناء على توافر شروط الانهيار الكلي الموضوعية والذاتية.

وتكمن مشكلة المشكلات اليوم في أن كثيراً من السلطات التي تشهد احتضاراً تاريخياً تقاوم هذا الاحتضار بعنف مطلق، اعتقاداً منها أنها قادرة على استعادة القوة والحياة. وهذه حال دولتين عربيتين تعانيان من عدم الاستقرار، أما حال السلطة في اليمن، فأمره عند الحوثيين أمر كوميدي على نحو مضحك أكثر.

فالعصبيات الطائفية والميليشيوية والعسكرية، تعيش مرحلة احتضار تاريخي، ولكنها تشهر السلاح ضد احتضارها في وجه الجديد الوليد. فبدل أن يخلق الوعي بالاحتضار سلوكاً واقعياً يساعد التاريخ على ولادة الجديد، يتحول هذا الوعي بالاحتضار إلى سلوك عدواني عنفي لا طائل منه أبداً، إذ ليس هناك قوة محتضرة على وجه الأرض تمنع الموت عن نفسها، أو تنتصر على الاحتضار التاريخي، وليس هناك قوة خارجية قادرة على منح المحتضر تاريخياً ترياق الحياة.

غير أن أخطر ما في سلوك المحتضر، هو النزعة العدمية السلبية للمستقبل وللحياة الجديدة، فيعلن أن احتضاره يجب أن يؤدي إلى احتضار الجديد، وأن موته يجب أن يترافق مع موت نقيضه الحي، وهذا لن يتم، من وجهة نظره، إلا باستخدام العنف ما بعد اللامعقول.

وتزداد المسألة تعقيداً في حال اليمن، حيث تسعى قوى منهارة تاريخياً وماتت منذ زمن طويل، إلى بعث الحياة في الميت تاريخياً. فالإمامة في اليمن، مرحلة قد زالت من التاريخ، ومر على زوالها أكثر من نصف قرن، ثم تأتي فئة تعتقد بأنها عبر القوة المسلّحة بالبارود، قادرة إحياء العظام وهي رميم، واستعادة الإمامة مرة أخرى في شخص الحوثي.

إن هذا الهبل التاريخي المؤيَد من إيران، قد زيّن لأصحابه إمكانية إعادة اليمن إلى مرحلة الإمامة، وهذا أمر فيه استحالة، ليتأمل المتأمّلون في ما جرّه هذا الوهم على البلاد والعباد.

وتجب الإشارة إلى أن نظرية ابن خلدون لا تصح إلا على السُّلط التي تفتقر إلى العقد الوطني في الحكم، أما الدول التي تكون فيها السلطة ذات إجماع مجتمعي، وليست ذات عصبية ضيّقة، فلا ينطبق عليها النظر الخلدوني.

ولعمري، إن مساعدة المحتضر تاريخياً على الموت الرحيم، ومد الجديد بقوة الولادة الحية، يوفّر على المجتمعات عذابات الولادة العسيرة. أما مد المحتضر تاريخياً بأسباب الحياة، فأمر عبثي أولاً، وفعل غير أخلاقي يزيد من عذابات الناس ثانياً.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

 
Email