الخيال عند العرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

دار حوار أمامي بين شخصين، الأول كان يتندّر على الأفلام الخيالية وأنها لا تستحق المشاهدة، لأنها لا تحترم عقل المشاهد بسبب مبالغاتها. فتدخلت قائلاً، بأنه لولا الخيال لما تمكّن الإنسان من صنع الطائرة ولا القطار ولا الغواصة التي نجوب بها قيعان المحيطات، ولا حاملة الطائرات التي تعتبر مطاراً عسكرياً متنقلة تخيف بها البلدان خصومها. الخيال هو الذي جعل فكرة التطاول بالبنيان يخترق سقف خيالنا، فقد لامست ناطحات السحاب عنان السماء. وبالخيال تمكّنا من الوقوف على سطح القمر الذي كان أسيراً لإشعار الشعوب وقصصهم وخرافاتهم. وبالخيال صنعنا صندوق الدنيا التلفزيون، وشاشة الهاتف التي نطل من خلالها على كل ما هو جميل وممتع ومدهش، ونحن لم نغادر غرفة المعيشة.

الخيال هو الذي جعل فكرة مخترع الإنترنت البريطاني حقيقة قلبت موازين البشرية. فصار انقلاب هنا أو ثورة هناك أو ضحكة هنا أو عطسة هناك تراها لحظة بلحظة. وقد رأينا كيف اقترن الخيال بالعلم والطب فصار في مقدور السلطات الطبية في لحظة واحدة إرسال رسالة تحذيرية إلى هواتف الناس فيخرجون عن بكرة أبيهم إلى حدث جلل أو إلى سراديب الملاجئ عند وقوع مكروه. وقد تحققت نبوءة الكاتب الإنجليزي المبدع جورج أورويل في روايته الخالدة 1984 عندما تنبأ في الأربعينيات أنه سيكون في مقدور الحكومات تتبّع تفاصيل حياة البشر. وقد حدث هذا في كل مكان حتى أنه لم تعد تخيف الكاميرات المارة. ومن أقوى التجارب التي رأيتها عندما تحدى مراسل «بي بي سي» في الصين السلطات الأمنية بأن كان بوسعها معرفة مكانه وهو يختبئ بين الحشود بأماكن معينة، في تقرير صحافي لافت. فتمكنوا من خلال تقنية التعرف على تقاطيع الوجه، من تحديد مكانه، وخط سيره، بدقة مذهلة، صعقت المذيع نفسه قبل المشاهدين. فتجمهر عليه رجال الأمن في مشهد صحافي لطيف جسّد حقيقة أن الخيال يمكن أن يصبح واقعاً يوماً ما مثلما تنبأ الروائي جورج أورويل.

مشكلتنا تنبع من المدارس التي تبالغ بالتركيز على القصص القيمية وهي في غاية الأهمية، لكننا في العصر الذي نعيشه نحتاج إلى مزيد من الحكايات والأدبيات التي تنمّي الخيال والإبداع الفكري لدى الإنسان. وذلك حتى يتعامل مع مشاكله ومحيطه بصورة أكثر فاعلية وانفتاحاً نحو الأفكار الجديدة أو التفكير «خارج الصندوق» كما يقال. كما أن الخيال لا يمكن أن ننتظره لكي يهبط علينا، بل لابد من أن تدعم الشركات المليونية مشاريع الاستدامة أو المسؤولية الاجتماعية CSR في كل نادٍ أو فصل أو مدرسة أو مشروع يحفّز الخيال بشتى صوره العلمية والإبداعية. وذلك حتى تتفتّق أذهان العرب نحو عظمة العقل البشري الذي لا يبدو أننا أحسنّا استغلال قدراته. لماذا لا يكون لدينا مسابقة وطنية حكومية أو خاصة لأفضل عمل إبداعي خيالي؟ لماذا لا يكون هناك برنامج دائم في كل تلفزيون ينمّي الخيال، ويشرحه، ويوضح ثماره على البشرية. وأن الواقع الذي نعيشه كان في الأصل خيالاً محضاً، فابتكار شبكة الصرف الصحي والكهرباء والماء كان حتى عهد قريب يعد ضرباً من الجنون. لكنه أصبح واقعاً مع العلم والعزيمة. مشكلة الخيال أنه إذا تم وأده فإننا نئد مشروعاً كبيراً حرم صاحبه من أن يشار إليه بالبنان. وما «والت ديزني» صاحب مدينة الألعاب الخيالية بشخصياتها الكرتونية إلا مثال لخياله الخصب. وفتحت صورة «ميكي ماوس» التي رسمها في القطار قطاعاً ترفيهياً هائلاً بعوائده، وما زالت سينما هوليوود تزخر بإنتاج أفلامه.

ولولا الخيال ومحاولات عباس بن فرناس الأولى لربما ما زلنا نركب سفناً عملاقة مثل «تايتانيك» للوصول إلى بر الولايات المتحدة الأمريكية. لقد قطع بنا الخيال أشواطاً عديدة نحو ما لم نحلم به. وإذا ما اقترن الخيال بالعلم صارت الدهشة أعظم. ولذلك قال العالم أينشتاين: «العلامة الحقيقية للذكاء ليست المعرفة (العلم) بل الخيال». وهو كلام دقيق. فمع الخيال يمكن للمرء أن ينشئ أفكاراً، ورؤى، وأطروحات وابتكارات مدهشة، قد يتفوق بها على كل من سبقه، حتى في العلم.

*كاتب كويتي

Email