تصدّع جدران منظومة القيم

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم تربيتهم الأخلاقية السليمة، يتخذ بعض الشباب والشابات مواقف، ربما تبدو لنا غريبة، من بعض الظواهر الاجتماعية التي نستنكرها، نحن جيل الكبار، الأمر الذي يزيد من مساحة دهشتنا، ويجعلنا نتساءل: هل ندق أجراس الرحيل لمنظومة القيم التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، الذين ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، في سلسلة ممتدة من جيل إلى جيل؟.

ثمة ما يدعو إلى طرح مثل هذا السؤال وغيره من الأسئلة، التي ربما تبدو لنا غريبة في هذا العصر، الذي تقلصت فيه مساحة الدهشة، ولم يعد هناك ما يجعلنا نفغر أفواهنا، كما كنا نفعل قبل عقود من الزمن، وهو ما يتم تداوله عبر وسائط التواصل الاجتماعي من مقاطع مصورة وآراء، ليست لشبان صغار وفتيات صغيرات فقط، وإنما لبعض الكبار والكبيرات، تتسم بالكثير من الجرأة، التي تتصف بالوقاحة، إلى درجة أننا لا نستطيع مشاهدة هذه المقاطع أو الاستماع إلى ما يقال فيها نحن الكبار، ليس أمام أبنائنا وبناتنا فقط، وإنما أمام الكبار أمثالنا أيضاً، كيلا نتهم بالتفسّخ والانفلات من قيود القيم والأخلاق التي ندعو إلى التمسّك بها.

أذكر أننا عندما كنا صغاراً، لم نكن نجرؤ على أن نجاهر أمام آبائنا وأمهاتنا والكبار من أهلنا، بقراءة روايات لبعض الكتاب، ولا بعض المجلات الطبية المتخصصة، لكون هذه الروايات تشتمل على قصص يضعها البعض في خانة «العيب»، الذي يجب علينا عدم الاقتراب منه، ولكون هذه المجلات، تشتمل على بعض الأمور الحساسة التي يعتقد الكبار أنه من المحظور علينا الاطلاع عليها، ناهيك عن التطرّق لها، فكنا نحرص على حمل كتب مصطفى لطفي المنفلوطي، ومجلة «العربي» في أيدينا، لنبدو أمامهم مهذبين وجادين. واليوم، عندما أعود إلى قراءة تلك الروايات، التي كنت قد قرأتها في مرحلة الطفولة والصبا، أجدها قصصاً بريئة، ليس فيها ما كان يخشى علينا منه آباؤنا وأمهاتنا والكبار من أهلنا، وأجد تلك المجلات الطبية المتخصصة، تبدو نشرات مهذّبة، إذا ما قارناها بمقاطع الفيديو التي نشاهدها على «يوتيوب» و«تيك توك»، وغيرهما من منصات التواصل الاجتماعي، التي يتابعها الكبار والصغار، على حد سواء، أو بالأفلام والمسلسلات التي تعرض على بعض المنصات، مثل «نتفليكس» وغيرها، وفي القنوات المفتوحة، دون رقابة على المشاهد التي تحتويها، ولا الأفكار التي تتضمنها، والتي تسللت إلى مجتمعاتنا الشرقية، التي كانت ذات يوم محافظة، بغض النظر عن الأديان السماوية التي تتبعها شعوبها، لأن جميع الأديان تحث على القيم الفاضلة، وتنبذ الرذائل بأشكالها المختلفة، وتحرص على منظومات أخلاقية لا تحيد عنها، باعتبارها ذات مصدر إلهي واحد.

ربما يكون مفهوم الرذيلة، هو الذي تغيّر لدى البعض ممن أصبح يعتبر المجاهرة بالسلوكيات الشاذة أمراً عادياً، أو لا يعتبرها رذيلة من الأساس. لهذا، علينا ألا نستغرب إذا أعلن هذا البعض مثليّته بصراحة، وطالب بأن تكون له حقوق في المجتمع، باعتباره إنساناً سويّاً غير خارج عن منظومة القيم الأخلاقية المتعارف عليها في المجتمعات السويّة، ولا إذا اعتبر استنكار ممارسته لهذا الفعل قيداً يُفرض على حريته، وطالب من ينكر عليه ذلك بالتخلّي عن رجعيته، وفق مفهومه للرجعية والانفتاح على العالم الجديد، الذي أصبح يتشكل بيد بعض القوى الكبرى، فارضين على الجميع التسليم بهذه القيم الغريبة التي يسعون إلى نشرها، ويشجّعون من يؤمن بها على ممارستها علناً، بل ويختارون مِن بين ممارسيها، مَن يُسنِدون إليهم وإليهن وظائف مهمة، يأتون لتسلّمها مع أزواجهم الذين هم من جنسهم، أو يأتين مع زوجاتهن اللاتي هنّ من جنسهن.

مَن المخطئ ومَن المصيب في هذه المسألة؟ سؤال كان يُفترَض أن تكون إجابته واضحة وضوح الشمس، لكنها تبدو ملتبسة، في ظل الفوضى غير الخلاقة التي يعيشها العالم اليوم، وفي ظل عدم الاتفاق على شيء، حتى لو كان هذا الشيء هو القيم الثابتة، التي قد يطرأ عليها تعديل طفيف، كي تتماشى مع طبيعة كل عصر ووسائله ونمط الحياة فيه، ولكن ليس إلى درجة تصدّع جدران هذه القيم، حتى في المجتمعات التي تعتبر الحارس الأكبر لها، كونها موطن الأديان السماوية، ومنبع الحضارات الإنسانية، التي أسّست لكل نهضة شهدتها البشرية على مدى تاريخها، ولم يتم تأسيس نهضة منذ فجر التاريخ، على تفسّخٍ أو إهدارٍ للقيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية العليا.

* كاتب وإعلامي إماراتي

Email