سدّ النهضة.. أو الطّريق إلى إفريقيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

دخلت أزمة سدّ النهضة مرحلة حرجة وحسّاسة، بعد إصرار أثيوبيا على المضيّ قدماً في المرحلة الثانية من ملء السدّ، رغم اعتراضات مصر والسودان، ورغم كلّ المساعي الإقليمية والدولية لإيجاد حلّ يكفل مصالح جميع الأطراف، وبالخصوص الدولتين العربيتين.

ومن الواضح أنّ مصر نجحت في التعبئة الإقليمية لفائدة موقفها ومسعاها الدبلوماسي والسياسي، وقد جاء موقف مجلس جامعة الدول العربية الذي انعقد في دورة خاصّة بالموضوع في العاصمة القطرية الدوحة داعماً لمصر والسودان، وشدّد الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط على أنّه قد تتّخذ «إجراءات تدريجية» ضدّ أثيوبيا، مضيفا أنّ الجامعة دعت «مجلس الأمن لبحث أزمة سدّ النهضة». ويأتي هذا الاجتماع في سياق الحملة الدبلوماسية المصرية لكسب الرأي العام الدولي والعربي لفائدة قضيّتها.

ويعود هذا «الهجوم الدبلوماسي» المصري إلى سنوات خلت، ولكنّ أثيوبيا كانت في كلّ مرّة تضاعف الذرائع والتبريرات للتنصّل من التزاماتها والاتّفاقيات والتفاهمات مع الأطراف المعنية بالنزاع، والتي تمّت كلّها برعاية دولية.

ولا يبدو أنّ مصر-التي قامت على مدى السنتين الأخيرتين بتحييد كلّ الأطراف التي يمكن أن تدخل في النزاع-، لا يمكن لها أن تمارس سياسة ضبط النفس أكثر في ضوء التعنّت الأثيوبي والرفض المتكرّر لشتّى أنواع الوساطات من أجل إيجاد حلول تحفظ مصالح كلّ الأطراف، وهو ما يُستشفّ من حديث وزير خارجيتها سامح شكري خلال اجتماع مجلس وزراء خارجية الدول العربية المنعقد مؤخّراً في الدوحة الذي أكّد فيه أنّ صبر بلاده تعرّض لاختبارات عدة، مشيراً إلى أنّ مصر تصرّفت «من منطلق إدراكها لتبعات تصعيد التوتر على أمن واستقرار المنطقة».

إنّ مثل هذا الموقف يجب أن يؤخذ في علاقة بتحذيرات سابقة أطلقها الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، وأكّد فيها «أن الدولة المصرية بكل مؤسساتها ملتزمة بحماية الحقوق المصرية في مياه النيل».

ولا يخفى أنّ هذا الموقف عبّر عنه أكثر من رئيس مصري سابق، منذ إعلان أديس أبابا عن نيّتها إقامة سدّ النهضة على نهر النيل، الذي يصنّف كنهر دولي عابر للدول، وخاضع بالتالي لنظام قانوني خاصّ، وهو ما لا يبدو أنّ أثيوبيا مدركة له، إلّا أنّ صرامة الموقف اتّضحت وبانت أكثر مع الرئيس عبد الفتّاح السيسي الذي ألمح في أكثر من مرّة إلى أنّ مصر لن تتهاون مطلقاً في الدفاع عن مصالحها وحقوقها في مياه النيل، هو أكّد أيضًا أنّ بلاده قد تذهب بعيداً من أجل المحافظة على حقوقها، وهو كلام لايستثني خيار التصعيد الحربي.

ونعتقد أنّ مصر والمنطقة العربية عموماً تخوضان معركة مصيرية من أجل المحافظة على الحقوق أوّلاً، ومن أجل عودة العمل العربي المشترك الذي أصبح ممكناً بفضل المصالحة الخليجية ثانياً، وهو إلى جانب ذلك عمل لن يكتب له الدوام والنجاح، إلّا بتوحيد المواقف بخصوص أمّهات القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، مروراً بضرورة تحرير كامل الأراضي العربية المحتلّة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي

وثالثاً، فإنّ كسب معركة سدّ النهضة سيفتح مجدّداً، وبالتأكيد باب إفريقيا أمام الاستثمارات العربية.

ومعلوم أنّ افريقيا ستشهد في قادم السنوات صراعات كبيرة من أجل إعادة التموقع والنفوذ، ولعلّ الجدل القائم الآن بخصوص تواجد المتطرّفين والمسلّحين والإرهابيين عموماً في مالي والساحل الإفريقي هو أحد مظاهر هذه النزاعات، إن كان ذلك بين دول المنطقة أو بين القوى الدولية المتحكّمة في مصائر شعوب ودول المنطقة.

إنّ اتّخاذ القرار الصائب في موضوع سدّ النهضة سيُرجع مصر ومن ورائها المنطقة العربية إلى السباق نحو إفريقيا، بعد أن أعرضت مصر عن القارة السمراء لأحقاب على إثر محاولة الاغتيال التي تعرّض لها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أثيوبيا سنة 1995، والتي وجّهت أصابع الإتّهام فيها إلى مجموعة إسلامية متطرّفة.

وإنّ الشراكة مع إفريقيا تمرّ حتماً عبر كسب مصر معركتها من أجل مياه النيل، وكذلك من خلال كسب المجموعة الدولية بإسهام دولها في الحرب ضدّ الإرهاب في مالي ومنطقة الساحل الإفريقي، هذا الإرهاب الذي يريد فصل شمال القارّة عن جنوبها.

وأخيراً، فإنّه لا مستقبل لضمان مصالح شعوبنا سوى من خلال الوعي بضرورة إنجاح مسارات المصالحة العربية وبعودة العمل العربي على أساس مشترك من القيم وحسن النيّة ومصلحة الدول والشعوب.

* كاتب تونسي

Email