تعاليمُ المُعلّم الكبير.. قراءة في أفكار محمد بن راشد

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أروع ما تمتاز به شخصية صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، رعاه الله، هذا الجمعُ النادر الفريد بين نمطين من التعليم الفاعل في الشخصية الإنسانية، أولهما: التعليم في مدرسة الحياة، والثاني: هو التعليم في مؤسسات التعليم الأكاديمي ابتداءً من الطفولة وانتهاءً بالمعاهد العلمية الكبرى.

وإنّ الناظر فيما يكتبه سموه، وما ينشره من أحاديث عميقة الأهمية سيجد أنه شديد الامتنان للتعليم الذي استفاده من مدرسة الحياة حيث خاض معتركاتها منذ طفولته الأولى، وتمّ صقل شخصيته المبدعة تحت عين والديْن من حكماء هذه الحياة، طيّب الله ثراهما، ثم ازداد حظه الوافر من هذا النمط من التعليم حين لازم شيخ حكماء الجزيرة المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، طيب الله ثراه، الذي كان مدرسةً عميقة التأثير في جميع الأجيال التي تشرفت بالجلوس بين يديه.

والاقتباس من نور حكمته، والاغتراف من بحر عطائه وبصيرته وحنكته، وهو ما عبّر عنه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد بكل أصالة وثقة واقتدار حين تحدث عن دروس الحياة التي تلقاها عن آبائه وأجداده من آل مكتوم الكرام، وكيف أنه ورث هذا النظر الواسع في الحياة كابراً عن كابر، واستمع معي إلى هذه النبرة المُفعمة بروح الفخر حين يقول سموه في مقدمة كتابه البديع (رؤيتي: التحديات في سباق التميز):

«أنا ابن قبيلةٍ عربية في النهاية، وأبناء القبائل يستقون العلم والحكمة وبُعْد النظر من أهلهم أكثرَ مما يستقونها من المدارس. قادةٌ كثيرون لم ينتظموا في المدارس فكانت مدرستهم الحقيقية الحياة والمراقبة الدقيقة لكل ما يجري حولهم، وكان مدرّسوهم الحقيقيون أبناءَ عشيرتهم».

في هذا السياق النافع من الاهتمام بمدرسة الحياة وما تنطوي عليه من الحِكَم والأسرار، ينشر صاحب السموّ بين الحين والآخر بعض العبارات المختصرة المكثّفة تحت عنوان «علّمتني الحياة» تهدف إلى تعزيز القيم الأخلاقية والسلوكية والقيادية لدى أبناء الوطن من مختلف الأجيال ممّن يعرفون عمق الخبرة ونفاذ البصيرة اللتين امتاز بهما سموه خلال مسيرته الطويلة الجليلة في خدمة الوطن وإعماره والتقدم به نحو الآفاق التي تليق به، ونُشر لصاحب السموّ تغريدة على «إنستغرام» يقول فيها: «علّمتني الحياة أننا في زمنٍ، حِفاظنا على مكتسباتنا هو أهم مكاسبنا، وتوحيد القلوب أحد أهمّ خطوط دفاعاتنا، والحفاظ على عقلانيتنا أفضلُ خطّةٍ في زمنٍ كثُر فيه الغوغاء».

بهذا الوضوح الجازم النابع من الخبرة العميقة بهذه الحياة ومشكلاتها وتحدياتها، يقرر سموه أنّ الحفاظ على الإنجازات المتميزة للوطن والتي أصبحت هي جوهر مكتسباته هي أهمُّ المكاسب في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الخسائر.

وهذا الدرس هو عين الحكمة وخلاصة الصواب، فكثير من الدول كما الأشخاص يندفعون في مرحلةٍ ما لإنجاز مكتسبات كبيرة جديرة بالتقدير، ويبذلون في سبيل ذلك جهوداً تستحق الصون والمحافظة، لكنهم في لحظةٍ ما من لحظات الحياة ترتخي قبضتهم عن جمر الإنجاز، وينفرط عِقْدُه، وتتلاعب أمواج الحياة بسفينة الوطن، وربما انعكس الاتجاه وضاعت بوصلة الإبحار في قلب المحيط، وذهبت كل الجهود السابقة هباءً منثوراً، فمن هنا جاءت هذه الوصية الثمينة من صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد لتستنير البصيرة بقيمة المُنجَز، وتتوحد الجهود في سبيل المحافظة عليه.

ولأنّ الحفاظ على المنجز لا يمكن أن يتحقق بالجهود المبعثرة، والقلوب المتنافرة، وجّه سموه الأنظار إلى القيمة الكبرى لعمل القلوب في توحيد الجهد والبلوغ بالوطن إلى مرسى الأمان، فأضاف إلى الدرس السابق درساً جديداً هو أن أهمّ خطوط الدفاع التي يجب بناؤها لمواجهة كل الظروف العصيبة هو توحيد القلوب الذي يستدعي بالضرورة توحيد السواعد، وتوحيد الطاقات، وتوحيد العزائم، فمن المستحيل أن يتم الحفاظ على منجزات الوطن، فضلاً عن التقدم به إلا بعد توحيد القلوب والإرادات.

وهذا هو الدرس الأبلغ الذي تركه لنا باني مجد الوطن والساعي في وحدته بتوحيد قلوب أبنائه المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي بذل الجهد الأكبر في توحيد قلوب أبناء الوطن والتأليف بينها قبل أن يشرع في رسم حدود الوطن المتحد الزاهي الجميل.

وهو ما يطالب به صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد الذي استقى من مدرسة الشيخ زايد أصفى دروس الحكمة، وتعلّم منه أن البحث عن نقاط الاتفاق هو الذي سيجفّف كل منابع الفرقة والخلاف، ولم يكن ذلك مجرد كلام نظري بل كان ممارسة عملية عميقة الأثر، وكانت هي وراء إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة التي نفتخر بالانتماء إليها والعيش في ظلالها الوارفة الآمنة الجميلة.

وتأكيداً على ما سبق من دروس الحياة، يؤكد سموه أن هذا الزمن الذي نعيش فيه زمن قد سيطر فيه التفكير الغوغائي على مسار الحياة، وأنّ واجب أصحاب العقل والبصيرة هو الحفاظ على التفكير العقلاني السديد الذي يأخذ بأيدي الباحثين عن خيط النور في هذه الحياة التي يكتنفها غير قليل من الظلام، وذلك للوقوف بصلابة وعزم في وجه القوى الغوغائية التي لا تمنح الحياة ما تستحقه من التفكر والتبصر للبحث عن نمط الحياة الصحيح، وهذا هو قَدَرُ العقلاء في كل زمان، أن يظلوا يحملون أعباء تسديد الفكر، وإضاءة الطريق أمام الأجيال التي تنشد السكينة والأمان والسلام.

 

 
Email