دَحْرُ الإرهاب والتطرّف طريقه واحِدٌ

ت + ت - الحجم الطبيعي

قرّرت فرنسا، نهاية الأسبوع الماضي، السّحب التدريجي لقواتها المتمركزة أساساً في دولة مالي، وفي عدد من دول الساحل الأفريقي، التي تمسح 4500 كلم تقريباً.

ومعلوم أنّ فرنسا، برئاسة فرانسوا هولاند، قرّرت سنة 2013، إرسال 5100 جندي إلى مالي تحديداً، من أجل ملاحقة المتطرّفين والإرهابيين والقضاء عليهم، وذلك في إطار عملية انطلقت فرنسية، وكان يفترض لها أن تكون أوروبية ودولية، وسمّيت حينئذ «بارخان»، غير أنّه تبيّن لاحقاً أنّ فرنسا هي التي تحمّلت العبء الأكبر من العملية، وتكاد تكون تُركت وحيدة، في مهمّة كان هدفها الأسمى محاصرة الإرهاب في جغرافيا بعيدة عن أوروبا، ودرء مخاطره عنها.

ومنذ وصول إيمانويل ماكرون إلى الرئاسة في فرنسا، قدّر تحت ضغط الكلفة المادية والكلفة في الأرواح الحدَّ التدريجي من الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، ليبلغ 2500 جندي في حدود 2023، وفي مرحلة أولى، أمر بوقف عملية «بارخان»، وتعويضها بعملية أخرى، ولكنّها متعدّدة الأطراف من أوروبا تحديداً، وقد اختاروا لها من الأسماء «تاكوبا»، وهي قوّة تتكوّن من قرابة 600 من القوات المختصّة نصفها من فرنسا، والنصف الآخر من دول أوروبية أخرى.

ويرى الملاحظون أنّ الانسحاب العسكري الفرنسي من منطقة الساحل، هو نتيجة الفشل في القضاء على الوجود الإرهابي، بسبب عوامل عديدة ومتداخلة، وبسبب تدفّق المزيد من المتطرّفين والإرهابيين، إثر كلّ تفاهم يحصل في منطقة نزاع في الدول، التي وُجدت فيها هذه الجماعات المتطرّفة والإرهابية.

من جهتها، قدّمت فرنسا تبريرات أخرى لتفسير قرار انسحابها التدريجي، وهي أنّ عملية «بارخان» التي تدوم منذ ثماني سنوات، لم تعد تتلاءم مع المعطيات الجغراسياسية الجديدة، حيث بدا أنّ المنطقة أصبحت ملاذاً فعلياً وآمناً لكلّ المتطرّفين والإرهابيين الهاربين من مناطق نزاع أخرى، وهو ما خلق ميدانياً وفعلياً، حزاماً جغرافياً تحت السيطرة الشكلية لمسلّحين وإرهابيين من مختلف التوجّهات والحساسيات، حتّى المتناقضة منها، ولكنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ المتحكّم الفعلي، هي الأطراف والجهات التي تدير العمليات في كلّ مناطق النزاع دون استثناء، فهي التي تُشعل النار، وتقوم بإطفائها عند اللزوم والمصلحة.

السبب الثاني الذي قدّمته فرنسا لتبرير انسحابها التدريجي من المنطقة، هو أنّ الدول المحلية لم يكن بمقدورها بسط نفوذها على المناطق المحرّرة، إمّا لضعفها وعجزها، أو لأنّها توصّلت إلى «تفاهمات» مع المجموعات الإرهابية والمتطرّفة.

أمّا السبب الآخر الذي لم تعلن عنها صراحة فرنسا، فهو أنّها فقدت تقريباً حلفاءها في المنطقة، سواء كان ذلك في تشاد، أو في مالي، أو حتّى في بوركينا فاسو، وذلك بسبب التحوّلات السياسية، وجنوح بعض الحكومات إلى ترجيح التفاوض مع المجموعات الإرهابية والمتطرّفة، وهو ما لم تقبل به فرنسا.

وكنتيجة لتكثّف الوجود المتطرّف والإرهابي وتناقض مكوّناته، يتبيّن أنّه من المستحيل تكوين إمارة موحّدة في المنطقة، تمتدّ من الأطلسي إلى السودان، ولكنّه في المقابل، فإنّ هذا الحزام تحوّل فعلياً إلى منطقة عازلة، تفصل شمال القارّة الأفريقية عن جنوبها، وهي منطقة يسيطر عليها الإرهابيون، إمّا مباشرة، أو بفعل ضعف أو تواطؤ الدول التي يوجدون على أراضيها.

وهي منطقة أضحت فيها الدول المحلّية الحلقة الأضعف، دول تتحكّم فيها قوى دولية غير معلنة، ولكنّها معلومة عن طريق الجماعات المتطرّفة والإرهابية، ما أدّى إلى عدم استقرار شامل في المنطقة، وهو مآلٌ نرى أنّه مقصود، لأنّه يحقّق مجموعة أهداف أساسية، من السّهل التوصّل إلى المستفيدين منها.

إنّ عدم الاستقرار الشامل، هو عامل ضغط على الاتّحاد الأوروبي، لأنّه يقوّي عملية تدفّق المهاجرين الشرعيين، وبالخصوص غير الشرعيين إلى أوروبا، وهي عملية تغذّيها أيضاً الأزمة الاقتصادية والسياسية المستفحلة في هذه الدول.

عدم الاستقرار، هو كذلك عامل ضغط على الوجود الصيني الاقتصادي في أفريقيا، وكذلك على الوجود الروسي العسكري.

وثالثاً، فإنّ عدم الاستقرار، هو بالخصوص الضمانة الرئيسة لاستمرار وجود المتطرّفين والإرهابيين، ليبقوا ورقة التفاوض الرئيسة، والسّيف المسلط على كلّ الدول «المارقة» والخارجة عن سياق مصالح بعض الأطراف.

المهمّ أنّ القرار الفرنسي بالانسحاب التدريجي من هذه المنطقة الأفريقية، يؤكّد أنّ طريق الخلاص، والتخلّص من خطر الإرهاب، لا يزال طويلاً، وهو يحتاج إلى مزيد من تضافر وتضامن مختلف الأطراف الدولية، واقتناعها بأنّ الإرهاب والتطرّف قد يخدم لحينٍ مصلحة طرف ما، ولكنّه على المدَييْن المتوسّط والبعيد، هو عملية تدمير ممنهجة للجميع، ولحضارة الإنسان.

مخيّرون نحن إذن بين هدنة مع الإرهاب، قد تُربح بعض الفتات، ولكنّها تؤدّي لا محالة إلى خسارة الحرب في النهاية، وبين مواجهته بكلّ الوسائل، وضمان كسب هذه الحرب.

 

 

Email