قيادة الأُسُود قراءة في ومضة قيادية لمحمد بن راشد

ت + ت - الحجم الطبيعي

قليلون، بل قليلون جداً هم القادة الذين يجعلون أكبر همّهم صُنْعَ الصف المُوازي في القيادة، وتوظيف خبراتهم العميقة في إنتاج نماذج متفردة من القيادات التي تحمل مع القائد الأكبر أعباء التنمية وإدارة مسيرة الدولة، فمعظم القيادات السياسية، لا سيّما في العالم العربي تُهمل هذا الجانب الذي هو الضمانة الوحيدة للبقاء والتجدد والإبداع، وتكتفي بذاتها الشمولية في الإدارة والسياسة، فأن تكون قائداً ربما يكون هذا أمراً سهلاً، وربما جاء بالفطرة أو التعليم أو الممارسة، لكن أن تكون قائداً مُصمّماً على صنع أجيال القيادة في بلادك، فهذا هو الاستثناء الذي يستحق التنويه والاحترام وتعميم النموذج لكي يصبح جزءاً من الثقافة وسلوكاً في الحياة التي تستحق منا الحفاوة ومواصلة الإبداع.

في هذا السياق من العناية المتواصلة بصناعة أجيال القيادة، نشر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، مقطعاً رائعاً بالصوت والصورة على حسابه في «إنستغرام»، تحدث فيه عن واجب القائد تجاه فرق العمل التي تعمل معه، ومما لا شكّ فيه أنّ تأثير هذا المقطع سيكون في تمام فاعليته حين نشاهد المقطع بكامل تفاصيله، ونلمس عن قُربٍ الإيحاءَ العميقَ للصور التي تمّ إرفاقها معه، فالمعلم الكبير هو الذي ينقل خبرته للأجيال في مجال عمله، وصاحب السموّ هو الرجل الذي صقلته الأيام في جميع مساراتها، وتلقّى نمطاً فريداً من التعليم في مدرسة الحياة وبصحبة كبار حكمائها، واختبر تفاصيل هذه الحياة بصحرائها ومائها، وشروقها وغروبها، وازداد خبرة وبصيرة بحكم دراسته خارج البلاد في بلاد متحضرة لا ينقصها الذكاء وثقافة التقدم، وخاض معركة البناء الداخلي في أصعب الظروف، وواجه من التحديات ما يجعل من خبرته الذاتية كنزاً فريداً يضخّ في عروق الأجيال الشابة وشرايينها مزيداً من دماء الإرادة والقوة والتحدي وصنع المستحيل، بحيث عمل خلال مسيرته الطويلة على ترسيخ ثقافة العمل الجماعي كفريق متكامل قادر على إنجاز جميع المهام الصعبة لكي يبدّد وبأسلوب عملي المقولة السلبية الشائعة عن العرب، والتي تقول: «إنّ العرب جيدون كأفراد وسيئون كفريق»، وقد ردّ صاحب السموّ على هذه المقولة التي ذكرها في كتابه الرائع (رؤيتي) بقوله: «هذا ظُلمٌ. العرب أبناء حضارة، وبناء الحضارة يتطلب جهداً جماعياً، ثم إنّ العمل الجماعي ضروري لبقاء النوع وهو يقتضي التعاون والتنسيق».

(يجب على القائد أن يأخذ بيد مساعديه وأتباعه وفرق العمل اللي عنده) بهذه العبارة الواضحة الجازمة المُصَدَّرة بفعل الوجوب «يجب»، افتتح صاحب السموّ هذه الومضة القوية الدلالة على تصميمه على ترسيخ ثقافة القيادة في جميع تجليات الحياة، وحين يستخدم صاحب السموّ الفعل «يجب» فهو يعني ما يقول، فإنتاج أجيال القيادة ليس نافلة ولا ترفاً، بل هو واجب من واجبات القائد الأكبر للدولة، ثم مَنْ يليه في هرم القيادة حتى تصل الفاعلية إلى آخر موظف من موظفي الدولة في جميع القطاعات العامة والخاصة، فالقيادة سلوك شامل وليس خاصاً بقطاع دون قطاع، وملحوظ أن عبارة «يأخذ بيد مساعديه» تشير في دلالتها إلى سلوك الحكمة والحزم في تدريب الأجيال على القيادة، وأنّ صناعة القادة لا تأتي بمجرد الأوامر وصياغة القوانين الرادعة، بل لا بُدّ من خطة مرسومة وتنفيذ هذه الخطة بمنتهى الذكاء والفاعلية وتنمية الحس القيادي بأسلوب عملي يستوعب الأخطاء ويتجاوزها، ويصحح المسيرة كلما تعثرت، ويُعلي من شأن الابتكار والإبداع ويحفّز جميع المظاهر السلوكية التي تظهر خلال مسيرة بناء القادة بحيث يشعر الفريق بأنّ هناك خطة مرسومة لإنجاز الأهداف، وينخرط الجميع عن وعيٍ وبصيرة وحبّ في مسيرة البناء والإعمار من خلال الإحساس بشعور القيادة والتبعية المسؤولة لقائدٍ شجاعٍ يعمل على تدريبهم واستخراج أفضل ما فيهم من الطاقات والإمكانيات.

(وأن يدرّبهم، وأن يعلّمهم ويحاضرهم، ويبقى الساعات الطوال معهم حتى يوصلوا للمراتب اللي يريدونها بالتحفيز وإعطائهم الثقة وكذلك بإعطائهم المسؤوليات) وتواصل الومضة الأسدية الحديث عن مسؤوليات القائد وواجباته وعدم الاكتفاء بمجرد القول إن إنتاج القيادات أمر واجب، فكيف سيتمّ إنتاجهم؟ هذا ما يجيب عنه صاحب السموّ، وذلك من خلال تدريبهم بكل ما تحمله كلمة التدريب من معنى حقيقي يقوم على الصبر عليهم، وتفعيل طاقاتهم وتدريبها من خلال الممارسة العملية على فنون القيادة، فالأفكار النظرية ليست كافية إطلاقاً لصنع القائد، بل لا بدّ من الصقل والتدريب، ثم التعليم من خلال المحاضرات المكثفة، فضلاً عن البقاء معهم الساعات الطوال كي يلمسوا عن قُربٍ أهمية الأفكار وحاجتها إلى التأصيل العملي من أجل الوصول إلى المراتب القيادية التي تم التخطيط للوصول إليها، مقروناً ذلك كله بتعميق مشاعر الثقة بالنفس، وتنمية الحس الأخلاقي بالمسؤولية من خلال الممارسة التطبيقية التي تضمن تفعيل المحتوى النظري للأفكار.

(فالقائد يجب أن يكون يريد مصلحة شعبه، يريد مصلحة مساعديه، أتباعه، فرق العمل اللي عنده، شو يريد إلـْهُمْ ؟ يريد إلـْهُمْ أن يصيروا مثله، يصيرون أُسُودْ)، ويختتم صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد هذه الومضة بالكشف عن الهدف الذي يريده القائد المستبصر الذي يعرف وقع خطواته، وخطوات الفريق الذي يعمل معه، فيحدد الهدف العام الذي يريده القائد المباشر وهو مصلحة الشعب، وذلك بتوفير عناصر الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وتنمية الحس الوطني، وذلك بإعلاء قيمة الروح الوطنية كدافع أصيل في علاقة الإنسان بوطنه، ثم يجمع إلى ذلك إرادة مصلحة الفرق التي تعمل معه من خلال منحها أفضل الفرص لتفعيل طاقاتها واستخراج أفضل ما فيها من القدرات، فهذا هو التكريم الحقيقي لعنصر الذكاء في الإنسان، وليس مجرد صبّ المال على الناس هو الذي يرتقي بهم، بل لا بدّ من صقلهم وتدريبهم وتجهيزهم لكي يكونوا حُماة لوطنهم في جميع مرافق الحياة، فالوطن يحميه الجيش من أعداء الخارج، ويحميه القادة المبدعون من أعداء الداخل، فإنّ استقرار المجتمع وانطلاقه نحو آفاق الريادة والإنجاز هو الصيغة المُثلى للحياة الصحيحة المستقيمة.

ثم كانت هذه الخاتمة الرائعة التي هي جوهر الومضة وخلاصتها، هي ما ذا يريد لهم القائد أن يكونوا ؟ يريد لهم أن يصلوا إلى مستواه النادر المتفرد في القيادة، والذي يُعبّر عنه بالوصول إلى مرتبة الأسد كملك مُطاعٍ لا يخرج عن أمره أحدٌ من الرعية ليس من باب الخوف، بل من باب الإحساس بالمسؤولية، فالقائد الشجاع هو الذي يصنع المستحيل ويقهر العقبات ويتجاوز التحديات، تماماً مثل الأسد الذي لا يعرف الجبن ولا الخوف ولا التردد في مواجهة الحياة.

Email