يبدي الكثير من المراقبين تفاؤلاً حذراً بشأن الأوضاع في ليبيا، خاصة بعد التطورات السياسية الأخيرة، ويرى كثيرون أن تشكيل الحكومة يعد إنجازاً يحسب لليبيين.
لكن هناك مخاطر عدة تواجه العهد الجديد، فعلى المستوى الدولي، هناك تنافس بين الدول الأوروبية على ليبيا، رغم أنها تحاول جاهدة أن تقدم صورة موحدة عن توجهاتها في البلاد. فبعد تشكل الحكومة الليبية الجديدة توجه وفد من الاتحاد الأوروبي إلى ليبيا لمباركة الخطوة والتوصل لإجماع ليبي، وتبعهم زيارة لوزيري خارجية كل من إيطاليا واليونان، ولكن المواقف العلنية تختلف عن المصالح الخفية للدول، والتي تتزاحم على هذا القُطر المكلوم.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للولايات المتحدة، ففي عهد الرئيس السابق، ساند دونالد ترامب تدخل دول إقليمية في ليبيا، لمواجهة الروس في شرق البلاد. ولا يزال هذا التنافس المحموم بين القوتين العظميين في أوجه، وإذا ما اشتدت حدة التنافس الجيواستراتيجي بين البلدين، خاصة بشأن أوكرانيا، فإن الصراع سيجد طريقه إلى ليبيا.
وبالنسبة للإقليم، فإن تأثيره لا يستهان به. بالنسبة لمصر، فإن ليبيا تشكل عمقاً استراتيجياً، ولا يمكن لمصر أن تنأى بنفسها عن التطورات داخل ليبيا، وقد شهدنا الإنذار المصري ضد تقدم القوات الليبية بمساندة الميليشيات والمرتزقة إلى الشرق المحاذي لمصر.
ولا نغفل أن هناك دولاً إقليمية غير عربية لاعبة في المسرح الليبي، وترى في ليبيا مصلحة جيواستراتيجية لجهة ترسيم الحدود البحرية، فضلاً عن التموضع الاستراتيجي في المتوسط. وإذا ما أحست أن التطورات داخل ليبيا تسير في اتجاه مغاير لمصالحها، فإنها ستعمل على تقويض تلك التطورات، ما قد يؤدي إلى الإضرار بالأمن والاستقرار في ليبيا.
ودول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، ترى في أي اضطرابات في ليبيا، وتأثيرها السلبي على مصر، ومن ثم على أمن البحر الأحمر، تهديداً مباشراً على مصالحها. وبنفس القدر فإن انتشار جماعات مسلحة أجنبية ومحلية يعتبر مصدر تهديد لكل الإقليم.
أما على المستوى المحلي، فهناك تهديدات متمثلة في وجود المجموعات المسلحة غير المنضبطة. وقد جُلب إلى ليبيا كثير من المرتزقة لمحاربة طرف ضد آخر. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، أصبحت هذه الجماعات المسلحة عبئاً على المجتمع والدولة الليبية.
فاحتكار الدولة لوسائل القوة العسكرية الشرعية هي من أهم اشتراطاتها؛ وألا تكون دولة هشة وتفتقد المصداقية. فالدولة التي لا تستطيع أن تشيع الأمن في ربوعها وضمن حدودها الجغرافية، فإنها تفتقد إلى أهم مقوماتها، ولا تستطيع القيام بهذه الوظيفة (أي الأمن)، إلا إذا احتكرت السلاح في يدها.
وفي السعي لتأسيس حكومة دستورية، هناك تحديات ستواجهها الحكومة الجديدة. فليبيا عاشت في عهد القذافي دون ضوابط دستورية، وفي ظل مؤسسات سياسية واهنة، أو تكاد تكون منعدمة، بل إن القذافي تعمد تفتيت مؤسسات الحكم حتى يتسنى له إبقاء كل خيوط اللعبة السياسية في يده. فالتخلف السياسي الذي عانت منه الحياة السياسية الليبية طوال أربعة عقود، إضافة إلى عقد من الاحتراب الأهلي، يشكل عقبة كأداء في وجه تثبيت نظام الحكم.
وعلى الصعيد المحلي أيضاً، هناك ضعف في المجتمع المدني، ما حرم البلاد من التطور الطبيعي منذ بزوغ الجماهيرية، والتي حولت المجتمع إلى ذرات مفتتة طيعة لتغول نظام الحكم فيها. كما أن المجتمع التقليدي المكون من جماعات اجتماعية، قبلية أو إثنية، لها ولاءات محلية، غير وطنية، تشكل عائقاً في مأسسة الحياة السياسية.
أضف إلى ذلك، أن الانقسامات الجغرافية - طرابلس في الغرب، وفزان في الجنوب، وبرقة في الشرق، والمكونات الرئيسية للجغرافيا السياسية - كانت دوماً محل تنافس بين الأقاليم الثلاثة، وقد لعب النظام السابق على هذه الانقسامات لتحقيق قدر أكبر من السيطرة.
وأخيراً، فإن الاستحقاق الاقتصادي سيكون له حيز كبير في أجندة الحكومة الجديدة، فالاقتصاد الليبي يعاني من ويلات الحروب، وصناعة النفط والتي تشكّل المصدر الرئيس للدخل، تحتاج إلى عناية بعد سيطرة أطراف عديدة عليها، ولا شك في أن جائحة «كورونا» ستزيد الأعباء الاقتصادية والصحية على الحكومة الجديدة.
ويظل الأمل كبيراً في الشعب الليبي الذي سئم الاقتتال، وقرر أن يخوض تجربة سياسية جديدة، تقوم على التعايش بين الأطراف السياسية. المجتمع الدولي والإقليمي لهما المصلحة في تحقيق الاستقرار والأمن في ليبيا، ولكن تقاطع المصالح قد يفرز أموراً أخرى. ويقول الشاعر أبو القاسم الشابي، جار ليبيا:
إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ