الاعتدال بين العبادة والحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ذكر أحد الأصدقاء قصة مشاهدته لرجل عارٍ يسير في الهند وبجانبه آخر يحمل علماً أبيض، وعندما سأل، اتضح له أن الرجل من ديانة «الجين» أو الجانية أو اليانيّة، وهي ديانة هندية قديمة تدعو للسلمية وعدم إيذاء أي شيء، سواء أكان إنساناً أو حيواناً أو حتى نباتاً، وهذا الرجل يمثل أحد الرهبان بالنسبة لهم، ويجوب من قرية لقرية سيراً على الأقدام وهو بهذا الشكل «عارٍ» متحملاً الطقس البارد جداً والظروف الصعبة لمثل هذه الممارسات.

وقد لا تختلف قصة هذا العجوز وحالته عن معظم الرهبان أو القديسين أو حتى بعض المتصوفين، فجميعهم لديهم مرجعية معينة تجعل منهم رافضين لجميع أنواع الترف أو الراحة أو حتى الحياة الطبيعية، وقد نتقبل أفعالهم بدرجة معينة، ولكن يوجد على طرف مغاير أشخاص يؤذون أنفسهم، فمنهم من يضرب نفسه بأقسى الأنواع من الأدوات الحديدية والجنازير حتى يدمي نفسه، والبعض ينام على الأرض ويدع البقر تدوس على رأسه، ليأخذ بركتها، والكثير الكثير من أشكال التعذيب للنفس والقصد واحد؛ التقرب من الله أو لإرضاء الإله.

الأديان السماوية وحتى والنبوءات غير السماوية تجتمع فيها هذه النقطة تحديداً وإن اختلفت درجاتها ومعانيها وطقوسها، فتجد ديانة يمنع الرهبان فيها أنفسهم عن ممارسة أي نوع وأي شكل من أشكال المتعة أو اللذة، والبعض يحرم نفسه من الراحة ويتحمل ظروفاً حياتية صعبة، والبعض يزهد في دينه ويعيش في كهوف أو مساكن أو دور عبادة لسنوات، قد تصل طيلة عمره ليبتعد عن الحياة الطبيعية بكافة أشكالها، وهناك من يعفي لحيته وشعر رأسه حتى يصبح منظره لافتاً للنظر، ويحرّم على نفسه ممارسات بسيطة قد تجعل من حياته أفضل وأسلم وأكثر جمالاً، ولكن ينأى هؤلاء عن أي ممارسة فيها راحة لحياتهم، وكأن التعب أو «الشقاء» هو الطريق إلى الله أو الإله الذي يعبدونه.

في الحقيقة لو فكرت قليلاً، لوجدت أن جميع هذه الممارسات باطلة ولا أساس لها من الصحة، ورغم أننا في عصر الانفتاح والعقلانية، وعصر العولمة والتطور وسهولة الوصول للمعلومات والحقائق، فإن هذه الممارسات ما زال لها من يتبعها ويؤمن بها؛ وما زال جيل بعد جيل يتوارثون مثل هذه الأمور ويحثون أجيالهم على التمسك بهذه الطقوس رغم الأذى النفسي والجسدي الذي تسببه، ورغم أني لست ضليعاً بالروحانيات، فإنني لا أعتقد أن يكون الشفاء الروحي طاغياً على الألم النفسي والجسدي، مهما كانت درجة الانغماس بهذه الممارسات.

ودعونا نكون منصفين لديننا الإسلامي الحنيف الذي دعا لنبذ الرهبانية لكونها سبباً في إبطال عمارة الأرض، وجاءت سنة نبينا الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، منادية بالاعتدال بين العبادة والحياة، ولكن هناك جماعات وأحزاب أو ملل أو حتى مذاهب نادت بالروحانيات الزائفة، وهناك جماعات متطرفة اتخذت من الموت شعاراً لها، ونادت بالابتعاد عن ملذات الحياة ونعيمها، واتخذت نمطية معينة توارثتها من قصص وكتب التاريخ، وجعلت منها منهجاً لسلوكياتها وسلوكيات أفرادها، في حين أن الإسلام نادى بالعقلانية ودعا لنبذ الرهبانية، ولكن للأسف وجدنا من يتخذ أشكالاً مشابهة للرهبانية لكن بطرق ونماذج مختلفة.

الإنسان إنسان مهما اختلف في معتقداته وسلوكياته، وله طبيعة تكوينية لا تنسجم أبداً مع مثل هذه الممارسات التي لا يتقبلها أي عاقل، والمصيبة أنك قد تجد إنساناً مثقفاً، أو محسوباً على العلماء،

وتجده في نفس الوقت يؤمن بمثل هذه الطقوس ويتبعها ويمارسها وينقلها لمن بعده، وهذا ليس بالأمر المستغرب، فالأديان لها نمطية تجعل من الصعب اختراقها والتشكيك بمعتقداتها، فهذا ما وجدنا عليه آباءنا، ورغم مشقة البعض مع أديانهم، فإنك ستجد من يمارس هذه المشقة وتجد من يؤذي نفسه وجسده للتقرب مما يعبد، ومثل هذه الأفكار، وإن كانت مغلوطة بوجهة نظري على الأقل، إلا أنها نمطية متكرسة لا يمكن تغييرها بسهولة، أو ربما يستحيل تغييرها، ولهذا من الصعوبة بمكان أن تقنع أي راهب أو متصوف أو متبع لطقوس قاسية في عبادته، أن ما يقوم به لا جدوى منه، وأن الله يدعونا لعمارة الأرض أكثر من دعوته لعمارة الأديان، ولكن أتباع كل دين يريدون إيجاد طقوسهم الخاصة، وجيلاً بعد جيل تصبح هذه الطقوس مقدسة لا يمكن التشكيك فيها رغم أن المنطق والعقل يقولان عكس ذلك تماماً.

Email