مسبارُ الأمل والدخول في قلب التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

على أرض البطولة والجلالِ

تحقّق حُلمُ أسيادِ الرجالِ

تحقّق حلم سيدنا المُفدّى

كبيرِ الشان زايدِ ذي المعالي

رعى «الناموس» في هضباتِ دارٍ

يُحاكي مجدُها بيضَ الليالي

رعاكِ اللهُ يا دارَ الغَيارى

ويا دارَ المحبةِ والجمال

بك الأمجادُ تزهو يا بلادي

ويرقى العلمُ في درَجِ الكمال

يحوط الدارَ مِقدامٌ جسورٌ

له من راشد الخيرات تالي

هو الليثُ الهصورُ إذا دهتنا

خطوبُ الدهرِ بالسُّمر العوالي

يُفجّرُ صخرةَ الأفكار عزماً

ويسعى بالجليل منَ الفعال

فصمّم أن يكون لنا مكانٌ

رفيعُ القدرِ بين ذوي الصِّيالِ

بمسبارٍ له في الجوّ عزمٌ

كعزم الناهضين إلى المعالي

إلى المرّيخ سيّرنا علوماً

يُدكدكُ بأسُها صُمّ الجبالِ

بدخول مسبار الأمل في مدار المريخ بتاريخ 9 فبراير 2021م، تكون الإمارات قد حقّقت واحداً من أعمق منجزاتها الدالة على شخصيتها الوطنية التي يمكن تلخيصها في عبارة بليغة الدلالة على هويّة هذا الوطن الذي يجمع بين نبرة التواضع والفخر حين يقول وبصوتٍ مسموع: «الإماراتُ دولة الأفعال لا الأقوال، تقول ما تفعل، وتفعل ما تقول»، وتسطّر إنجازاتها الفريدة لتحقق الأحلام التي كانت عسيرةً بعيدة، فقبل سبع سنوات وتحديداً في 16 يوليو عام 2014م، كتب صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، رعاه الله، تغريدة أعلن فيها عن نيّة الإمارات لتدشين مشروعٍ فضائي يتلخص في إرسال أول مسبارٍ عربيّ وإسلامي لكوكب المريخ يصل في العام 2021م، ثمّ عقّب على هذه التغريدة التي تحمل قدراً كبيراً من التحدي والجسارة بقوله: «هدفنا تقديم إسهامات معرفية جديدة للبشرية»، وفي اليوم المحدد للوصول تمت المهمة بنجاح لتعلن هذه القفزة الحضارية عن امتلاك العرب والمسلمين لجُرعةٍ عميقةٍ من الثقة بالنفس كانوا بأمسّ الحاجة إليها في هذا العصر الذي هيمن فيه العلم على كل شيءٍ حتى أصبح المقياس الوحيد للتحضر والإسهام في صناعة الحياة، وكم كانت فرحة أبناء الإمارات غامرة صادقة بتحقيق هذا الإنجاز الذي أسهم فيه الجميع (قيادةً وحكومة وإنساناً وشعباً) بكل انتماء وإحساس عميق بالمسؤولية تجاه هذا الوطن الطيب المِعطاء الذي يستحق منا كل تضحية وجهد وإعمار.

وبعدُ: فقد اخترت هذا العنوان (الدخول في قلب التاريخ) عنواناً لهذه المقالة تعبيراً عن الحقيقة العميقة لهذا الحدث الكبير الذي يشهده الوطن الحبيب، فالهدف الأسمى من هذا المشروع ليس مقتصراً على الدخول في مدار المريخ الذي تتنافس الدول الكبرى للدخول فيه، بل الهدف الأكبر هو الدخول في قلب التاريخ من خلال هذا العمل الاستثنائي الذي أطلق الطاقات الثمينة في شباب الوطن، ووضع الإمارات في قلب المشهد العالمي حين اختارت لنفسها طريق مواجهة المستحيل، وكان تجسيداً فريداً للتواصل النبيل بين الأجيال حين حرصت القيادة على تنفيذ أحلام الآباء المؤسسين، لحظةٌ تاريخية فارقة عاشها وطني الأعز والأغلى: الإمارات العربية المتحدة، بعد تسجيل إنجاز علمي فريد تمثّل في رحلة مسبار الأمل للدخول في مدار المريخ بعد عامٍ كاملٍ من انطلاقه، لتكون الإمارات هي الدولة العربية الأولى التي تحقق هذا الإنجاز بالدخول إلى نادي الفضاء الدولي، والخامسة عالمياً من حيث محاولة الدخول في مدار المريخ في إنجازٍ مدهشٍ كان ثمرة العزيمة الصادقة، والإرادة المتينة، والرغبة العارمة التي جعلت قرار التقدم هاجساً عميق التجذر في الروح العامة للإنسان الإماراتي وليس مجرد رغبة سياسية، ليكون هذا الحدث الضخم تحقيقاً لحلم الرائد الباني المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان طيب الله ثراه، مؤسس الدولة وراعي نهضتها الذي كان موضوع الوصول إلى الفضاء أحد هواجسه المبكرة من عمر الدولة التي نشأت عام 1971م، وليكتب بعد مرور ثلاث سنوات على هذه النشأة الميمونة، وتحديداً في 30/‏ 12/‏ 1974 قائلاً: «إنّ رحلات الفضاء يفخر بها كل إنسان على وجه الأرض، لأنها تُجسّد الإيمان بالله وقدرته، ونحن نشعر كعرب بأنّ لنا دوراً عظيماً في هذا المشروع وفي هذه الأبحاث»، لتظل هذه الكلمة الخالدة عميقة الحضور والرنين في وجدان (عِيال زايد) وكل أبناء الوطن هم عيال زايد، ولتحمل القيادة الشجاعة عبء تحقيق هذا الحلم في مجهود ضخم قاده المحمدان المتعاضدان على التقدم بهذا الوطن: صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيّان، وليّ عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، تحوطهما رعاية صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيّان، رئيس الدولة، متّعه الله بالصحّة والعافية، ومعهم شعب الإمارات كله الذي يحتفي بهذا الإنجاز الحضاري الكبير.

إنّ مسبار الأمل إنجاز يتجاوز الغايات العلمية المَحْضة التي تمّ تصميمه من أجلها، والتي تتمثل ابتداءً في الدخول في مدار كوكب المريخ، لتوفير معرفة علمية صحيحة بخصوص تغيّر الجوّ على مدار اليوم على هذا الكوكب، وما ينشأ من تحولات داخل فصول السنة، فهو، وكما يشير اسمه، رسالة أمل إلى الشباب العربي المسلم بأنّه لا يوجد شيءٌ مستحيل أمام الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، فالإنسان العربي ومنذ مئات السنين قد أصبح مجرد متفرجٍ على مقاعد الملعب الحضاري تتملّكه الدهشة فقط من طبيعة التقدم العلمي المتسارع الذي يكاد يحتكره إنسان الشعوب الغربية وربما الشرقية ولكن من غير العرب، فجاءت الإمارات هذه الدولة الفتيّة الشابة التي لا يزيد عمرها على خمسين عاماً لتقول بصوت مسموع: لن نقبلَ بهذه المكانة، ولن نرضى بدور المتفرّج، ليتمّ اختيار مئتي مهندس ومهندسة من خيرة أبناء الوطن، ويتمّ تكليفهم بتحقيق الحلم القديم الأصيل للآباء المؤسسين، فلم يُخيّبوا الظن، وانخرطوا ببسالة الشجعان، وصمموا هذا المسبار ضمن مرحلة زمنية قياسية وتكلفة هي أقلّ بكثير ممّا لو تمّ تصميمه خارج الوطن الحبيب، لتكون هذه الخطوة هي الدرس الأبلغ وهي الثمرة النضيجة لصقل شباب الوطن من كلا الجنسين، فقد كانت نسبة الإناث من بناتنا العاملات في المشروع أربعةً وثلاثين بالمئة من حجم القوة العاملة، وهذا مكسب حضاري لا يستهان به، وهو في جوهره تعبيرٌ عن احتدام الروح الوطنية، وشعورها العميق بالمسؤولية تجاه الوطن والإنسان.

إنّ هذا الإنجاز العلمي الرصين هو في مضمونه العميق تعبيرٌ عن أنّ المجتمع القوي يتكوّن من أفراد متميزين وأقوياء، وهذا يعني أنّ هناك حاجةً دائمة وماسّة لتعزيز الثقة الذاتية بالنفس؛ لأنّ الفرد الواثق بنفسه هو القادر على تحقيق المشروعات الكبرى، وهذا يعني من جهة أخرى أنّ القيادة بوعيها السياسي وضمن خبراتها المتراكمة هي قيادةٌ واثقة بقدرات الإنسان، ولا تتوانى في تحفيزه وتذكيره بطاقاته الخلّاقة، وهو ما تحرص عليه القيادة السياسية في جميع مستوياتها، حيث نلحظ هذا الاستثمار الواعي بطاقة الإنسان الإماراتي والحرص الدائم على تأكيد ثقته بنفسه، فضلاً عن المتابعة الحثيثة لكل ما يستجدّ من الإنجازات العلمية كي يكون الإنسان في السياق المعاصر ليتمكن من الإضافة والإبداع، ومن هنا تحرص قيادتنا على تنمية هذا الحس وتمكين الشباب من التعبير عن قدراتهم التي تحتاج إلى الدعم والتحفيز وترسيخ مبدأ الثقة بالنفس والوطن.

خمسون عاماً فقط هي الرحلة بين الصحراء والمريخ، وفي الوقت الذي لم تستطع أمم وشعوب ربما كانت أكثر منا عمقاً حضارياً ونشأة وتكويناً وإمكانيات، كانت الإمارات العربية المتحدة تقدّم النموذج الزاهر لقوة الإرادة، وروعة التصميم، والتعبير المتحضر عن الثقة بالنفس، والإطاحة القوية بفكرة المستحيل من عقلية أبناء هذا الوطن الذين يرسمون لوحة مجده على المشهد الحضاري للإنسانية بهذا الإنجاز المتميز، الذي آمنت من خلاله الإمارات بذاتها وقدراتها، ولم ترضخ لمفهوم المصادر والموارد بل تجاوزت هذه الهواجس لكي تحقق ما كان في دائرة المستحيل قبل خمسين عاماً، ليكون مسبار الأمل تعبيراً عن قوة الأمل، واحتدام الرغبة في رفع عَلَم الوطن هناك في الفضاء البعيد، هذا العلم الرمز الذي ترنّم ذات يوم بمجده صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد، فقال مفتخراً:

العلمْ لي كان زايدْ رافعنّهْ

هو أمانتنا نِعيش ونرفَعهْ

بالدّما له نفتدي ونذودْ عنِّهْ

وفي القلوب وفي المشاعر نزرعهْ

جميلٌ وكبيرٌ وبهيٌّ أنت أيها الوطن الأشمّ، والكلمات لا تفيك حقّك في يوم مجدك، ولكننا نحاول أن نكتب شيئاً يظل منقوشاً في ذاكرتك، فالسلام عليك بروابيك ونخيلك، بصحرائك وسمائك، برجالك ونسائك وأطفالك، سلامٌ على قادتك الأوفياء في هذا اليوم الأغر من تاريخك، سلامٌ على إنسانك الأصيل الذي يقدم كل شيء في سبيل أن تظلّ خفّاق اللواء، وسلامٌ على روح الرجال البُناة الذين نهضوا بك تحت شمس الصحراء اللاهبة، وجعلوا منك واحة أمن وسكينة وسلام، وتحيّةٌ خاصة خاصة لقائد الرجال ومعلّم الأجيال سيدي صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: فارس الوطن وشاعره وحاديه ومُغليه، الذي تعلّمنا منه كيف تكون محبة الأوطان.

 

Email