القائد وتجديد شباب الدولة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحياةُ هي مدرسة التعليم الكبرى، والدروس المستفادة منها هي أصدق الدروس وأعمقها تأثيراً في الحياة والمجتمع فضلاً عن القلب والوجدان، وحين يكون المرءُ نافذ البصيرة راجح العقل تكون الحياة أكثر إلهاماً له، وتكون صياغته للحكمة المستفادة منها في ذروة السداد والرشد والتعقّل، ومن لم يتعلم من الحياة فلن يتعلّم من أعظم المعلمين حتى لو كان خِرّيج أرقى المعاهد والجامعات.

تأسيساً على هذه الحقيقة الأخلاقية والثقافية جاءت كلمة صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، التي نشرها على حسابه الرسمي في «تويتر» لتؤكد عمق الدروس التي نستلهمها من الحياة حين افتتح تدوينته الرائعة بقوله: (علّمتني الحياة) ليضخّ بعدها شلّالاً من الدماء القوية في القلب والفكر والإرادة حين ارتفع بفكرة الحماسة وجعلها معياراً لشباب الدولة وشيخوختها، فقد علّمته الحياة بحسب قول سموّه: «أنّ الدول تشيب حين تفقد حماستها» وصدق وبرّ فيما قال والله، فالحماسة هي وقود الإبداع، وهي في أصل معناها اللغوي الشجاعة والصلابة في مواجهة الحياة ولا سيّما في ساحات القتال، هكذا كان معناها في العرف اللغوي القديم الأصيل، ثم أُطلقت على جميع مظاهر الاحتدام والنشاط والقوة والعزيمة في جميع مسارات الحياة، وهي سرّ الإبداع والتجدد، وكما قال صاحب السموّ فإنّ الدولة تشيب وتتلاشى في أفق الغروب حين يفقد أبناؤها الحماسة والمغامرة لإنجاز المستحيل، ولا نعرف أمة من الأمم سادت في هذه الأرض وصنعت تاريخها، إلا بفضل ما كان يموج في صدور أبنائها من الحماسة والشجاعة والصبر، وهذه أمتنا العربية الإسلامية ما بلغت مجدها القديم إلا بحماسة فرسانها الشجعان الذين دوّخوا البلاد بشجاعتهم وقوة قلوبهم وحماستهم الفائقة لنشر دين الله تعالى، وإخراج الإنسان من ظلمات الجهل والعبودية لغير الله الكبير المتعال، فكانت هذه الحضارة الزاهرة التي ملأت الأرض علماً وعدلاً وفنوناً ومعارف وشهد لها بذلك القاصي والداني، وما كان ذلك ليتمّ لولا تلك الحماسة المشتعلة مثل النار في القلوب والعقول، وهو ما تنبّه له أحد أكبر المفكرين في القرن العشرين وهو الأستاذ محمد أسد (النمساوي الذي كان اسمه ليوبولد فايس) ثم أعلن إسلامه حين عاش في جزيرة العرب وتذوق حقائق الإسلام الكبرى، فكتب واصفاً علة تأخر المسلمين عن اللحاق بركب الأمم المتحضرة فقال: «إنّ الذي ينقص المسلمين الآن هو ذلك الشرر اللاهب من الحماسة الذي كانت تموج به صدور الصحابة والأجيال اللاحقة ممن كانت تفور صدورهم بالحماسة لنشر هذا الدين وتمثيل حقائقه على هذه الأرض» وهو ما تمّ تأكيده في كلمة صاحب السموّ الذي كانت حياته وما زالت تجسيداً للحماسة في أرقى تجلياتها: إدارة للدولة، وقيادة لفرق العمل، ونهوضاً بالحياة الشامخة الأبيّة التي تليق بالرجال الشجعان، فهو يمارس فروسية الحماسة في تفاصيل الحياة كلها، ويبلغ ذلك ذروته في حماسته الكبرى للخيل وما ترمز إليه من قِيَم الفروسية والبسالة والتصميم على البقاء في صفوف المواجهة مهما كانت التحديات.

ثم يتابع صاحب السموّ كلامه الثمين في نشر ثقافة العزم وتجديد الإرادة وحماية المنجزات فيقول متابعاً وصفه لمسيرة الدول وإيقاع الشباب والشيخوخة: «وتهرم إذا فقدت دافعيّتها» وهذا لعَمْرُ الحق كلامٌ خارج من مشكاة الحقيقة، فالدوافع الكبرى هي التي تصنع الإنجازات الكبرى، وحين يكون الدافع هو الارتقاء بالوطن، ووضعه في مدار الدول المتقدمة فإنّ ذلك يستدعي وجود هِمّة عظيمة وعزيمة فائقة تكون قادرة على تحقيق المطالب الكبرى للوطن، وحين تكون الدوافع مختزلة فقط في تسيير الحياة الروتينية الرتيبة فإن الكسل يتفشّى في جميع مرافق الدولة، وتفقد الروح حيويتها، وتنتشر ثقافة التواكل والرضا بالدون من الأهداف، لتُصاب الدولة كلها بالضمور، ويلقي المحارب سلاحه هزيمة وضعفاً واستسلاماً.

وتزداد نبرة القوة في كلام صاحب السموّ حين يربط بين الشيخوخة وبين فقدان روح القتال ومواصلة النزال فيقول: «وتشيخ إذا فقدت روح القتال حتى وإن زاد شبابها»، وتالله إنّ الأمم والمجتمعات لا تستطيع مواصلة سيرها في الحياة القوية الكريمة إلا بالروح المعنوية العالية التي يسترخص معها الإنسان كل ما يبذل في سبيل الوطن والقيم العالية، وحين اشتعل جمر الحماسة في صدور رجال الوطن الأوائل ولا سيما الشيخان الكبيران الجليلان: زايد بن سلطان آل نهيّان، وراشد بن سعيد آل مكتوم رحمهما الله، قاما مثل الأسود الضارية وشمّرا عن ساعد الجدّ، وصمّما على إنشاء هذا الوطن الكبير الحبيب الذي نعيش على ثراه ثمرةً نضيجة من حماسة أولئك الفرسان الصناديد، فالعبرة في طبيعة الروح وليست بالأعمار، فالشباب الكسول لا قيمة له إن كانت البلاد مملوءة بهم، وإنما تُعْمَر الأوطان بالطاقات المتوقدة والعقول المتوهجة، والسواعد الفتية والزنود الباسلة، وهو ما سيختم به صاحب السموّ هذه الحكمة التي تستحق الكتابة بماء الذهب، بل والنقش على صخرة الوطن حين يقول: «العقول التي تملأها شعلة التنافس لا تشيب أبداً» وهذه مقولة تستخرج أقصى ما في القلوب من العزائم، وتفعل فعل السحر في العقول التي يسكنها هاجس التنافس، ولماذا نذهب بعيداً فهناك نماذج ما زالت تعيش بيننا نراها في الشعوب القوية التي تحرص على تجديد شبابها من خلال ثقافة العمل والإبداع، ونشر روح الحماسة داخل الروح العامة للشعب، ولا نعرف أمةً غربت شمسها إلا إذا انطفأ جمر الحماسة في قلوب قادتها وأبنائها.

سيدي صاحب السموّ: تفخر بك الإمارات ويزهو بك شعبك الذي يراك تتقدم الصفوف، وتشعل المصابيح في طريق العمل والإنجاز، وترقب بعيني صقر لا يغفل كل مظاهر القوة والنشاط والحيوية في مسيرة الوطن تماماً كما تعرف كل خفايا الترهل والكسل وتشير بلطفك المعهود إلى ذلك كله لكي يظل شعبك ووطنك مشبوب النار، متوقد الجمر، معتلياً ظهور المضمرات لا ترتخي له قبضة ولا تلين له قناة، فطوبى لنا بك فارساً مقداماً، وقائداً جسوراً وشاعراً يترنم بشعره الوطن والإنسان.

Email