شهد العالم تجربة مريرة في العام 2020 بسبب جائحة «كوفيد 19»، وقد سقط مئات الآلاف من البشر بسبب هذا الفيروس والذي لا يبدو أن نرى نهايته قريباً. فالحديث عن زيادة وتيرة انتشار المرض لا يدعو للتفاؤل. ولكن اللقاح والذي أنتجته شركات من بلدان عدة يبعث على الأمل أن القادم أفضل، وإن الإرادة الإنسانية ستتغلب على الطبيعة؛ وهي سمة الحضارة الأولى. المهم أن العالم بعد الجائحة سيواجه استحقاقات عدة تتعلق بالاقتصاد والشؤون المالية والصحة العامة. وقد شهدت سنة 2020 تراجعاً كبيراً في معدلات النمو الاقتصادي، وزيادة في معدلات البطالة وفي النفقات لتحفيز اقتصادات العالم، وتخفيف معاناة الملايين.
وكان على الحكومات المختلفة في الدول المتقدمة والنامية بذل جهود حثيثة لتنشيط الاقتصاد ومواجهة الاستحقاقات في هذا المجال. فزيادة النمو الاقتصادي ضرورية لتوفير الوظائف وتوسيع القاعدة المالية للحكومات عبر الضرائب لتعويض الإنفاق الكبير في السنة الماضية والحالية. ودونما تحفيز الاقتصاد وتحقيق معدلات نمو حقيقية، فإن خطة التعافي من الجائحة ستكون صعبة، وكلما تعثر الاقتصاد كلما زادت الاستحقاقات لتعديل مسار الدول نحو التعافي.
ومن نافل القول إن العلاقات الأمريكية - الصينية لها تداعيات على مجمل العلاقات الدولية. فتعافي الاقتصاد العالمي يعتمد على توصل الطرفين إلى تفاهمات بخصوص التجارة الدولية والبينية بينهما. ولا يمكن أن تستمر الحرب التجارية بين قطبي النظام العالمي، وتتابع حالة العداء السافر بين بكين وواشنطن. والتعاون الأمريكي - الصيني له انعكاسات على استقرار مناطق عدة في العالم، وفي مجالات متنوعة. وأهم هذه المجالات تتعلق بالصحة العامة، فالجائحة التي بدأت في الصين انتهت في أرجاء المعمورة.
والرئيس القادم إلى البيت الأبيض، جو بايدن، يروم تعاوناً دولياً والرجوع إلى النظام الليبرالي الدولي الذي بنت عليه الولايات المتحدة النظام العالمي بعيد الحرب العالمية الثانية. وتقوم الليبرالية الدولية على الدبلوماسية المتعددة، والتجارة الحرة، وتدفق الرساميل عبر الحدود، واحترام القوانين والأعراف الدولية. كما أن المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، إضافة إلى مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تعلب دوراً مهماً في السياسة والاقتصاد والأمن الدولي.
الرئيس العتيد سيواجه أجندة محتشدة بقضايا عويصة شائكة. فالوضع الأمريكي الداخلي منقسم، وقد زاده الانتقال العسير من ولاية الرئيس ترامب إلى ولاية بايدن استقطاب لم نشهده من قبل. ورأينا كيف أن أنصار ترامب اقتحموا مبنى الكونغرس لمنع التصديق على فوز بايدن بالرئاسة.
وهذا الانشغال بالأجندة الداخلية سيشكل حجر عثرة في سبيل تحقيق أجندة بايدن الدولية. وبايدن شغوف بالشأن الدولي؛ حيث شغل رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، وانشغل، حين كان نائباً للرئيس باراك أوباما، بالشؤون الخارجية. والشرق الأوسط، كالعادة، مثقل بالهموم، ولا يستطيع العالم غض الطرف عن مشكلات المنطقة العصية على الحلول. ومع توسع دائرة السلام العربية - الإسرائيلية، وانضمام مزيد من الدول العربية إلى ركب العلاقات مع إسرائيل، ستبرز قضية فلسطين كمشكلة قابلة للحل. فهناك رأسمال سياسي ممكن استغلاله من قبل الدول العربية والتي لها علاقة مع إسرائيل للتوسط لحل يتوافق مع الشرعية الدولية وحقوق الشعب الفلسطيني، ويحقق الأمن والسلام لجميع دول المنطقة. وهناك مسألة أمن الخليج العربي والتوسع الإيراني والتركي في المنطقة العربية، ورغبة لدى الإدارة الأمريكية المقبلة للجم طموحات إيران النووية، والعودة إلى الاتفاق السابق باتت غير مقبولة من أطراف عدة إقليمية وغربية. وتنوي الإدارة الجديدة إجراء تعديلات في الاتفاق، بحيث يتم إلغاء مدة انتهاء التخصيب، وجعله يستمر إلى ما لا نهاية، وكذلك الحد من وسائل إيصال الصواريخ بعيدة المدى، وكبح جماح النشاطات التوسعية لطهران. وإذا ما استطاعت إدارة بايدن تحقيق هذه الاشتراطات، فإن المنطقة ستنعم بالسلام.
تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتعامل معها سيكون مختلفاً. وبايدن، كما يعرف الرئيس التركي رجب أردوغان، لا يكن له كثيراً من الود منذ أن كان نائباً لأوباما. وتحجيم الدور التركي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشرق البحر المتوسط، سيشغل حيزاً في أجندة إدارة بايدن مع حلفائها الأوروبيين. والليالي من الزمان حبالى صامتات يلدن كل عجيب!
* كاتب وأكاديمي