الزمن في معادلة الإنجاز

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروي لي الرئيس التنفيذي لشركة شهيرة في الكويت حكايته مع حمامة بيضاء يحبها حباً جماً. إذ كان يتعهدها بالرعاية الدائمة، ولا يكاد يفارقها، فهو يتابع شؤونها طوال اليوم. وفي يوم من الأيام حدثته نفسه أن تبيض له «فرخاً» صغيراً قبل أوانه. فحاول جاهداً أن تبيض، بعد أن هيأ لها المناخ الملائم وفيما يشبه «العملية القيصرية»، حسب وصفه. وبعد أن حانت اللحظة المنتظرة هرع إلى تلقف البيضة بسرعة خاطفة، وما إن رفعها نحوه حتى سقطت فجأة من يده وتكسرت، فأسقط في يده وحزن على ذلك الموقف، لكنه ظل يتأمل بتجرد ما جرى. وقال لي: شعرت بأنني استعجلت كثيراً في الحصول على تلك البيضة، ليس لسبب سوى أنني كنت ألح على ذلك، ولم أتحلَ بالصبر، ولم أترك الأمر للزمن. ومنذ ذلك الحين وهو يتذكر تلك القصة في عالم البزنس والإدارة، فلم يعد يستعجل أمراً لم يحن أوانه بعد. فقد يكون الوقت الذي نختاره هو الأسوأ على الإطلاق.

وعندما تتأمل قصص الشركات تجد مفهوم الاستعجال حاضراً وبقوة. فكم من شركة كان يتوقع ملاكها التربع على عرش المنافسة أو القطاع لأنهم قد فعلوا كل ما بوسعهم حتى إذا ما حانت ساعة الصفر انهمرت عليهم السماء بكل ما كانوا يحلمون به، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. قبل أيام كنت أشاهد للمرة الثالثة مقابلة شهيرة وجميلة لأغنى أغنياء العالم بيل غيتس «صانع الحاسوب» مع نجم البرامج الكوميدية الساخر ديفيد ليترمان عام 1995، حيث كان يتهكم المذيع على بيل غيتس عندما وصف له الأخير كيف ستكون الإنترنت سوقاً عالمياً ضخماً، وتبحث فيه عن ضالتك وأصدقائك وسائر المعلومات المهمة، وكان المذيع يضحك ملء فيه، بينما كان غيتس يبادله «نظرات الإشفاق» كون المذيع لن يستطيع تخيّل كيف يمكن لغيتس أن يحقق حلمه الذي صرّح به وهو «أن يُدخِل حاسوبه كل بيت في العالم» وقد فعل، بل وقد دخل بيل غيتس نفسه التاريخ من أوسع أبوابه حينما قدّم للبشرية برمجيات (على شكل أيقونات) سهلة الفهم والتعامل بدلاً من نظام الدوس أو الشاشة السوداء الكئيبة، فأحدث نقلة مذهلة في تاريخ البشرية. ولا ألوم المذيع لأنه حينما كان يتندر على غيتس، كنت شخصياً آنذاك عندما أحاول فتح صفحة واحدة من «بريدي الإلكتروني» كانت تستغرق ثلث ساعة أمضيها في التحدث مع الأصدقاء قبل أن أعود إلى الحاسوب في رحلة اكتشافه البطيئة. باختصار لم ييأس بيل غيتس، ولم يستعجل الأمور، وبذل كل الأسباب الممكنة على مدى عقدين أو ثلاثة حتى بلغ هدفه. وما زلت أستمتع حالياً بإنجازه وأن أكتب هذا المقال من حاسوبي.

وفي قصة أخرى كان لعنصر الزمن دور في حسم الجولة وتحقيق ما كان يخشاه بيل غيتس. إذ قال حرفياً في خطبة شهيرة على مسرح في فانكوفر «لو تسبب شيء في مقتل عشرة ملايين فرد في العقود المقبلة، فمن المرجح أن يكون ذلك فيروساً شديد العدوى وليس حرباً ضروساً». ولم يأخذ الناس كلامه على محمل الجد، لكن ما قاله عام 2015 قد حدث بالفعل في عام 2020 حينما هجم فيروس «كورونا» المستجد على قارات العالم في مشهد مدهش لن نستوعبه إلا بعد أن نتأمل صورنا وصور الملايين ممن يرتدون تلك الكمامات البيضاء بعد سنوات من الآن. كان الزمن كفيلاً بكشف صحة ادعاء غيتس.

والأمر نفسه حدث في عالم الاتصالات عندما كان البعض لا يرى مستقبلاً يذكر لأول هاتف جوال صنعه المهندس الأمريكي مارتن كوبر، لكنه سرعان ما أصبح حقيقة مذهلة، حيث صار يشاهد سكان المعمورة خطاباً حياً ومهماً لرئيس دولة عظمى أو مباراة كرة قدم عبر هواتفهم الصغيرة، وأصبحت رسالة تحذيرية صغيرة من الحكومات إلى هواتف الناس يمكن أن تخرج الأمة عن بكرة أبيها إلى الملاجئ عندما يداهم بلدهم خطر ما، وذلك في سرعة مذهلة وغير مسبوقة في نقل المعلومة.

مهما بذل الناس من قصارى جهدهم، يبقى هناك عامل مهم اسمه «الزمن» يأبى إلا أن يأخذ مجراه، في كثير من الأحيان، حتى تكتمل معادلة الإنجاز.

* كاتب كويتي

Email