رمزية التكريم الفرنسي لفيروز

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُقرأ التكريم الفرنسي لفيروز في دلالاته الرمزية الكثيفة، فالرمز، عموماً، يخترق الواقع، ويتعالى على الانقسامات والتفاصيل اليومية المرهقة. الرمز يوحّد ويؤالف ويتسع للتأويل، وهذا ما يتجسّد في الفنانة اللبنانية التي يختلف أبناء شعبها على كل شيء، ويتفقون عليها.

لم يكن ماكرون الرئيسَ الفرنسيَ الأول الذي يكرم «سفيرة العالم إلى النجوم»، فقد سبقه إلى ذلك الرئيسان فرانسوا ميتران وجاك شيراك، رغم أنّ الوسام الأخير «جوقة الشرف الفرنسي» كان أرفع الأوسمة التي تمنحها باريس، وكان أنشأه نابليون بونابرت.

وبعيداً عن الإسقاطات السياسية لزيارة الرئيس الفرنسي لمنزل فيروز في الرابية ببيروت، ومكوثه برفقتها أكثر من ساعة، فإنّ المنتصر الحقيقي في الحدث ذاته هو الفن الخالد العابر للسياسة والجغرافيا والطوائف والأحزاب والحسابات الإستراتيجية.. الفن المنتسب للإنسان المعذّب، المقهور، المسلوبة كرامته، والمختطف وطنه وسلامه ومستقبله، والمُلقى في التيه الذي بلا ضفاف.

في التكريم انحياز للفن النبيل الذي جسدته فيروز بانتسابها إلى الأفكار العظيمة، وعدم تورطها في الاستقطاب، رغم أنها في بلد جُلّ ما فيه مستقطَب ومنحاز ومنشطر ويده على الزناد.

انقسام عامّ وطام، تلألأ فيه الفيروز، منذ أواسط القرن الماضي، فجمع الفرقاء، وأطلق النشيد الذي أصغى إليه العالم «من قلبي سلام لبيروت» وهي الأغنية التي تشبه التراتيل المقدسة، وكان لها أثر البلسم بعدما بثتها فضائيات العالم في أعقاب تفجير مرفأ بيروت في الرابع من الشهر الماضي.

يذهب زعماء الطوائف والقادة السياسيون وأمراء الحرب إلى النسيان، ويبقى صوت الفن، وتبقى الكتابات والأشعار والألحان، يبقى الرقص والرسم والفلسفة، وتبقى المسارح، وهذا هو المعنى الرمزي الآسر لتكريم المبدعين، فالسياسي يزداد شرفاً وحضوراً وهو يقلد الفنان وساماً، والفنان يزيد الوسام ألقاً حينما ينحني ليقلّده، وتلك الانحناءة تشبه غصنَ بانٍ يترنّم في غبطة النسيم.

سيتذكر أحفاد اللبنانيين بعد مئة سنة «جارة القمر» فيروز، وينسون حكام الطوائف وجنرالات الحرب الوهميين. ففيروز تجمع وهؤلاء يفرّقون. وسيتذكر أحفاد المصريين نجيب محفوظ وينسون غالبية قادتهم، لأنّ صديق الحرافيش كان مُلكاً للناس، يجلس في مقاهيهم، ويحتسي شايهم الكشري، ويسير في أزقتهم، ويرصد خرائط العذاب التي على وجوههم وفي قلوبهم.

وإن ينسى الإنجليز، فلن ينسوا شكسبير وآثاره الخالدة، فما زالوا حتى الآن يتحدثون عن روميو وجولييت، ويستذكرون بمحبة «أنطونيو» في «تاجر البندقية» وينبذون «شايلوك» وحكاية رطل اللحم.

وسيذكر الفرنسيون الفيلسوف ديكارت، وتتساقط من ذاكرتهم أسماء الزعماء السياسيين الذين عاش «أبو الفلسفة الحديثة» في أكنافهم، وكذا الأمر مع تولستوي في روسيا، ومع طاغور في الهند، ومع هيغل في ألمانيا، ومع امرىء القيس والمعري وابن رشد والمتنبي، ومع الجواهري، وأبي القاسم الشابي، ومع نزار قباني، الذي أعادت قصائده الماءَ إلى بردى؛ حيث «النهر يُسمعنا أحلى قصائده... والسرو يلبس بالساق الخلاخيلا».

وأما محمود درويش، فقد جمع الفلسطينيين، رغم انشطارهم وانحيازاتهم الما بعد دولتية، ووحّد نبضهم على الولاء لسيدة الأرض التي «كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين».

القائمة لا تنتهي للذين رصعوا الزمان بإبداعهم فأصبحت الحِقَب تسمى بأسمائهم، فهذه حِقْبة أرسطو، وتلك حِقبة أم كلثوم، وما بينهما حِقب ازدانت بمناقب فنانين وأدباء أكثر مما نُسبت إلى قادة، إلا إذا كان القائد عملاقاً لا يشق له غبار كالإسكندر المقدوني، أو طاغية مثل نيرون الذي أحرق روما بعدما عاث في الحكم فساداً.

حيث تذكر المصادر التاريخية بأنه بينما كانت النيران تتصاعد والأجساد تحترق وصراخ الضحايا يتصاعد، كان نيرون جالساً في برج مرتفع يتسلى بمنظر الحريق الذي خلب لبّه، وبيده آلة الطرب يغني أشعار هوميروس التي يصف فيها حريق طروادة!

* أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي

 

Email