في ليبيا.. لا بديل عن الخطّ الوطني

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعلّ القاسم المشترك بين دول «الربيع العربي» هو هذا الانهيار المأساوي للدولة ولمؤسّساتها. فالدولة بما هي تكثيف معقّد لتجارب مجتمع دخلت في هذه المجتمعات مرحلة التآكل، ومع مرور السنوات بدأت أُسُس هذه الدولة تتهاوى بفعل الضربات المتكرّرة معلومة المصدر التي تتلقّاها، والتي بدأت تُعطي أُكلَها في عديد المجتمعات العربية التي شهدت موجة «الربيع العربي» وإن كان بدرجات متفاوتة.

وسواء تعلّق الأمْرُ بتونس أو بليبيا أو بغيرهما، فإنّ مصدر قصف الدول والمجتمعات هو تقريبا طَرَفٌ واحدٌ وهو من كان صاحب المصلحة في نسف كلّ ما هو قائمٌ لأنّ القديم كلّه في تقدير وحسابات هذا الطرف يحب أن يؤول إلى زوالٍ.

ومعلومٌ أنّ حركات «الإسلام السياسي» لا يُعرف لها أيّ أثَرٍ في المخزون الوطني والموروث التاريخي لجلّ المجتمعات العربية، وهي زُرعت أساساً في المنطقة من أجل القضاء التدريجي على كلّ ما يُمثّل خاصّية مجتمعية وطنية متفرّدة.

وقد نجحت هذه الأطراف في زرع بذور الفتنة في المجتمعات التي دخلتها، وأرست الركائز القانونية والسياسية لتقويض القائم من أنظمة سياسية واجتماعية وثقافية، لأنّ كلّ الموجود لا يمثّلها وهي ليست جزءاً منه، بل هي نشأت في تناقض جذري معه ولذلك وجب تقويضه بالكامل.

وما جرى في تونس وليبيا وسوريا يؤكّد هذه البديهيات، فحركات «الإسلام السياسي» لا تُعرّف نفسها انطلاقاً من المرجعيات الوطنية لأيّ مجتمع بل هي تنظيم بُنِيَ منفصلاً عن الحراك المجتمعي للدّول وهو حراكٌ حَكَمَتْهُ على مدى التاريخ موازين القوى ولذلك وجب في تقدير هذه الأطراف المسقطة على هذه المجتمعات القضاء عليه.

وإنّ تطوّرات الأوضاع في ليبيا تؤكّد هذا المنحى بل إنّ ليبيا تعتبر في هذا الخصوص مثالاً صارخاً لعملية تركيب الطّرف «الإخواني» على جِسْمٍ غريب عنه وسيلفظه إن آجلاً أم عاجلاً لانعدام ثبوت أصله في التراب الليبي، ولعدم التوافق مع مكوّنات المجتمع الليبي التي هي بالأساس عشائرية وبرابط وطني يرفض التدخّل الخارجي، ويعتبره استهانة بموروثه التاريخي وبكرامة مواطنيه.

ومهما كانت تطوّرات الأوضاع في الداخل الليبي وخارجه، فإنّ من لم يفهم تركيبة المجتمع الليبي هذه ولَم يستوعب الحساسية التي يبديها هذا المجتمع تُجاه التدخّلات الأجنبية فإنّه ليس بمستطاعه التكهّن بمآلات الأمور هناك.

إنّ الاصطفاف خلف الخطّ الوطني وحده الذي يمثّل سبيل الخلاص بالنسبة للّيبيين، الذين يعتقدون اعتقاداً جازماً بأنّ بلدهم هو ضحية مؤامرة مزدوجة، فهو من ناحية مستهدف بسبب ثرواته ومقدّراته النفطية والغازية، وهو إلى جانب ذلك يتعرّض لعملية تشويه لهويّته الحضارية والثقافية تنفّذها الحركة «الإخوانية» برعاية دولية معلومة، وبشكل يخشى معه اللّيبيون أن يتحوّل بلدهم إلى ساحة لنزاع دولي وإقليمي لا مصلحة للشّعب الليبي فيه، أو هو يتطوّر إلى حالة من عدم الاستقرار لم يتحكّم في إطلاق شرارتها وسيستحيل عليه إيقافها.

ونعتقد أنّ التغيّر الجذري في الموقف الجزائري وكذلك التغيّر الطفيف ولكنّه المهمّ في الموقف التونسي وهي مواقف تلتقي في كونها رافضة للتدخّل الأجنبي فضلاً عن وضع مسافة تفصلها عن حكومة طرابلس، هي عوامل قد لا تساعد أنصار التدخّل الأجنبي في ليبيا وهي كذلك عوامل من شأنها أن تضع حكومة السرّاج في مأزق قد يشتدّ مع ما شهدته التطوّرات الميدانية الأخيرة من أحداث لا تخدم حكومة طرابلس وحلفاءها.

إنّ أشدّ ما يخشاه الليبيون هو أن يتمّ إعادة إنتاج السيناريو السوري في بلدهم فيصبح المواطن الليبي مجرّداً من كلّ أدوات الدفاع عن بلده ويكتفي بمتابعة عملية استباحة وطنه ولا يستطيع ردّ ذلك.

وإنّ في تدهور الوضع الميداني في ليبيا تهديد مباشر لاستقرار الأوضاع في تونس كما في الجزائر وإنّ مجرّد التفكير في فتح بؤرة توتّر في المنطقة فرضية لن تكون عواقبها سليمة على كامل المنطقة.

وفِي ليبيا كما في دول أخرى فإنّ التشخيص واضح والجريمة هي ذاتها وأدوات الجريمة معلومة وكذلك فإنّ الحلول واضحة وهي لا تخرج عن ضرورة تجذير الخطّ الوطني الذي يمثّل الضمانة الأساسية لصون سيادة الشعوب.

 

 

Email