عمران بن سالم العويس (رحمه الله)

ت + ت - الحجم الطبيعي

فاجأني اتصال من أحد الأخوة يخبرني عن وفاة الصديق العزيز عمران بن سالم العويس، رحمه الله تعالى، فانتابني حزن ووجوم، فمسكت القلم لأكتب شيئاً من الحديث عن الفقيد الغالي فأحسست في الأحشاء لوعة وفي القلب هماً وفي العين دمعة حرّى على فقدان هذه القامة الغالية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وحين أقول القامة العالية فأنا أعني ما أقول بكل دقة حيث أعلم يقيناً بأن لهذا المثقّف رحمه الله خصائص وخصالاً نادرة.

فإضافة لما يتمتع به من ثقافة واسعة بكل ما في الكلمة من معنى يتميز بميزات أخلاقية رفيعة تسمو بشخصه كمثقف بحيث تجعله بجانب ثقافته صاحب خلق معروف به في أوساطنا، فقد ضرب، رحمه الله، مثلاً واضحاً وعملياً على أهمية الأخلاق للمثقف بحيث توأم بين هاتين الخصلتين الجليلتين في شخصه الكريم، والذي كان ذلك فيه مدعاة لمزيد من الاحترام والتقدير لشخصه.. لقد كان عمران، رحمه الله، في جانب الثقافة، رجلاً قارئاً محباً للاطلاع إلى درجة لافتة، أعتقد أنه لم يترك فيما يتعلق بتاريخ الإمارات كتاباً لم يقرؤه حيث غدا، رحمه الله، معلماً من معالم هذه الثقافة في الإمارات.

فقد قرأ جميع ما كتب عنها من كتب وأبحاث باللغة العربية والأجنبية إذ كان يجيد الإنجليزية إجادة تامة مما مكنه من أن يلم بهذا التاريخ بشكل تفصيلي وعميق، فقد كان فيه مرجعاً من أهم المراجع وربما لا أبعد عن الحقيقة إن قلت المرجع الأول والأهم في تاريخ الإمارات مما حدا بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أن يختاره عضواً بلجنة التاريخ والتراث المعنية بجمع وتوثيق وكتابة تاريخ الإمارات. لقد كان رحمه الله في هذا الجانب موسوعة معتبرة موثوق المصادر فيها مأموناً فيما ينقله ويرويه في هذا الشأن.

 تحرٍ ودقة

عالم لا يشق له غبار ولا تكاد تغيب عن فكره وذهنه أحداث المنطقة صغيرها وكبيرها يحتوي وفاضه على معلومات كثيرة ومهمة وتفصيلية وموثقة إلى أبعد درجة، إذ إنه كثيراً ما يدقق على ذلك ويتحرى الصدق والأمانة والحقيقة في هذه المعلومات وكان ذا هداية وصبر وجلد في متابعة القراءة في هذا الشأن، فأذكر أننا أنا والمرحوم الشاعر حمد بوشهاب كنا نمُر عليه بصورة دائمة في مكتبه في السوق، فلا نكاد نراه حين ندخل عليه إلا والكتاب في يديه يقرأ منه، فهو معني بهذه القراءة بشكل يومي لأنه يعتبرها زاده وسلوته لا ينقطع عنها أبداً.

ويمكنني أن أعتبر عمران، رحمه الله، صاحب مستوى ثقافي متميز في تاريخ المنطقة، فلم يكن له شبيه في هذا الجانب، ولكن الرجل صاحب تواضع جم ونادر ولا يكاد يعرفه في هذه الثقافة إلا القلة من المقربين له، ولكم كان حريصاً على أن يظهر أمام الناس وفي الساحة الثقافية عادياً في ثقافته، فلم يكن يشارك في أي نقاشات رغم تمكنه وعلمه الواسع وثقافته الثّرة فيما يدور في هذا الشأن من حديث وحوار، وكان يربأ بنفسه لتواضعه، أن يخوض بهذا الشكل في المناقشات الدائرة حول كثير من المواضيع التاريخية الخاصة بالمنطقة، رغم أنه أعلم من غيره بها.

لكن حين يخلو المكان من الناس فإنك من خلال استماعك له وسرده لكثير من الحوادث التاريخية تعلم عن علو مستوى الرجل الثقافي وأنك أمام أستاذ كبير أفضل من حملة شهادة الدكتوراه المتخصصين، ولا يريد عمران، رحمه الله، أن يبرز نفسه كمثقف وصاحب علم في التاريخ وإنما يحاول قدر الإمكان أن يكون في جانب من الظل لا يعلم به الناس، ورأيي أن عالماً في التاريخ والأنساب كعمران العويس يعدّ مفخرة لمجتمع الإمارات الثقافي، فهو العالم الثقة المتمكّن الذي أهّلته قراءته وطول اطلاعه، وحبّه العميق لهذا الجانب من التاريخ لأن يصل إلى هذه المرحلة المهمة من الثقافة الواسعة في تاريخ المنطقة.

ولكن دون أن يكون معروفًا لدى كثير من المثقّفين، وخاصة جيل الشباب، وربما دون أن يسمعوا به لكونه بعيدًا عن وسائل الإعلام لفرط تواضعه وحيائه، وعدم رغبته في الظهور في أيّ صورة من الصور على ما عنده من علم وثقافة كبيرين.. على أن جلساته الخاصة بين زملائه والقريبين منه في اهتماماته تفيض علمًا وثقافة وعمقًا وسعةً في كثير من المعلومات والأحداث والأنساب ممّا يبهرك حقيقة ما عليه الرجل من هذه القدرات والإمكانيات في هذه الجوانب المهمة من العلم وخاصة تاريخ المنطقة.. وكنت أحد المقربين إليه وموضع ثقته فكان يدلي لي بدلوه في كثير من هذه المعلومات التاريخية.

وقد كنت عملت فترة باحثاً في لجنة التاريخ والتراث، فكان يزودني والمرحوم حمد بوشهاب بكثير من الأسئلة والاستفسارات التي تحتاج إلى إجابات من بعض الرواة الذين نقصدهم لهذا الغرض.. كما أن عمران، رحمه الله، على علم ومعرفة بأنساب العوائل من خلال تتبّعه واطلاعه واستفساراته، فقد كان على صلة وثيقة بهذا العلم والمعرفة التي جعلته أحد النسّابين فيه، وكثيراً ما كان يذكر أن اهتمامه بالأنساب هو من باب العلم ومعرفة القرابات والأرحام لغرض التواصل والبر بينهم، وليس من باب التعصّب الذي يرفضه ويحذر منه.. لم أر إنسانًا متخصّصاً في جانب تاريخ المنطقة مثل المرحوم عمران العويس.

كما أنه صاحب تواضع وخلق واحترام للناس، وربما إلى درجة تتعدى حدود المعقول.. لم أذكر أنه ذكر أحداً من الناس بشيء من النقد أو ما شابهه أو شارك في حديث من هذا القبيل، كان لسانه عفًّا إلى درجة عالية لا يذكر به إلا الإيجابيات والمحاسن والخصال الطيبة، فلم يسمع عنه انتقاد أو تعريض لأحد.

مرجع تاريخي

لقد استفدنا من جلساتنا معه استفادة كبيرة، ووجدنا عنده المرجعية التاريخية لكثير من استفساراتنا وتصحيح ما نعرضه عليه من بحوث، مما ينبئك أنك أمام عالم في التاريخ وصاحب ذاكرة فياضة بالمعلومات.. وللمرحوم، كما أعلم، مكتبة شاملة في هذا المجال، غنية بالمصادر والمراجع المهمة بالعربية والإنجليزية، وذلك ما يتطلب من ورثته المحافظة عليها والاهتمام بها لأنها ثمينة نادرة في مجالها جمعت موادها على مدى طويل من الزمن، حتى اكتمل عقدها من نفيس الكتب والمراجع التي جمعها عمران، رحمه الله، بكل دقة وعناية،.

وكان يوليها جلّ رعايته واهتمامه ولا شك أن تكون لعمران كثير من التعليقات والتصحيحات والكتابات التي لم يتسنّ لأحد الاطلاع عليها غيره، وتمتدّ مسؤولية الورثة لأن يستخرجوا هذه الأمور ويحافظوا عليها من التلف والاندثار بحفظها بصورة سليمة.. وأن تفتح المكتبة في تاريخ لاحق للاستفادة منها من قبل المطلعين والباحثين، فتلك من مهمة الورثة في هذا الكنز العلمي الكبير.

وعلى الرغم مما ذكرته عن عمران من تحفظ في هذا الجانب، إلا أنه، رحمه الله، إيجابي في المشاركة الثقافية، فأذكر أنه عندما عرضنا عليه مسألة إنشاء ندوة الثقافة والعلوم، وطلبنا منه المشاركة في تأسيسها وافق على ذلك مباشرة، وأيّد الموضوع فكان ضمن مجلس إدارتها فترة طويلة، وكان، رحمه الله، حتى آخر أيامه يتواصل مع الندوة من خلال حضور مجلسها الأسبوعي، وقد أصيب في فترة لاحقة بكسر في قدمه ربما أفقده شيئاً من قدرته على المشي، فكان يحضر على كرسي متحرك ليلتقي زملاءه المثقفين، ولكنه في فترة أخيرة احتجب عن الظهور لظروف مرضه، حتى وفاته رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

Email