ماذا يعني رفض إثيوبيا الاتفاق الذي وقّعت عليه مصر بالأحرف الأولى في واشنطن الأسبوع الماضي، بشأن سد النهضة؟

هو يعني في الأساس أن إثيوبيا كانت منذ البداية تتعمد إهدار وتضييع الوقت حتى تضع مصر أمام الأمر الواقع، أي بدء ملء وعمل السد، من دون اتفاق واضح على كيفية ملئه، أو آليات تشغيله. ويعني بالأساس أنه اتفاق جيد من وجهة النظر المصرية الرسمية، ويحافظ على الحد المعقول أو «أقل الضرر» لنا. ويعني ثالثاً أن كل المخاوف التي تحدث عنها مصريون كثيرون بشأن تراخي أو تهاون المفاوض المصري في المفاوضات لم تكن صحيحة.

لا ألوم من شككوا في طريقة التفاوض المصري. فشخصياً كنت أحياناً أحد هؤلاء، بسبب البطء الشديد، وبسبب ما عدته تهاوناً في البداية، مع مماطلات إثيوبيا، ولكن الطريقة التي انتهت إليها المفاوضات، والانسحاب الإثيوبي، يعني أن المفاوضين المصريين من جميع الجهات سواء كانوا من وزارة الري أو الخارجية أو المؤسسات السيادية، كانوا واعين طوال الوقت ومستعدين، وتمكنوا في النهاية من استمالة الموقف الأمريكي لصالحنا، حتى الآن على الأقل.

لو أن المفاوض المصري تنازل أو فرّط أو تهاون خلال المفاوضات، لكانت إثيوبيا أول الموقعين على الاتفاق المبدئي الذي تم التوصل إليه.

الكثيرون منا شككوا طوال الوقت، وسخروا من المفاوض المصري، وبالتالي فحق عليهم، الآن الإقرار بأن النتيجة النهائية، وهرب إثيوبيا في اللحظة الأخيرة هي أن المفاوضين المصريين، اتبعوا الطرق الصحيحة، وحشروا المفاوض الإثيوبي في ركن دبلوماسي صعب. لدرجة أنه لم يكن أمامه سوى الانسحاب بهذه الطريقة.

ورغم ذلك هناك وجهة نظر أخرى ترى أن مفاوضينا أخطأوا بالتساهل أمام إثيوبيا منذ البداية، ولولا ذلك ما وصلنا لهذا المأزق، الذي جعلنا نقبل من البداية فكرة بناء السد، ومن دون أن نكون مشاركين في إدارته.

أحترم هذا الرأي حتى لو اختلفت معه، وخصوصاً أن القضية شديدة التعقيد، وتتعلق بموازين القوى والرأي العام الدولي ودرجة التماسك الداخلي طوال مرحلة التفاوض.

عموماً قالت إثيوبيا قبل أيام إنها تملك السد، ولم يشكك أحد في أنها تملك السد، ولكن المشكلة ليست على الملكية، بل على كيفية تأثيره في الآخرين، والمشكلة الأكبر أن إثيوبيا تتصرف باعتبارها مالكة حصرية للنيل الأزرق، وأن بقية دول الحوض، ليس لها أي حقوق فيه، وبالتالي تريد عملياً تحويل هذا السد إلى «محبس» كي تتحكم في مصر.. سياسة، واقتصاداً، بل وجوداً وهو أمر يستحيل القبول به!

ينبغي لجميع المصريين في هذه اللحظات العصيبة، التي تتعرض فيها مصالحهم المائية للخطر الشديد، أن يتوحدوا جميعاً خلف الدفاع عن المصالح القومية. من حق أي شخص أن ينتقد موقف الحكومة المصرية من سد النهضة، طالما أنه يبحث عن الصالح العام، وليس المناكفة والمكايدة. وفي الموقف الذي نحن بصدده، ينبغي أن نسند موقف مفاوضينا، بعد أن ثبت أنهم لم يتنازلوا في أي جولة من جولات التفاوض.

سيقول البعض: ولكن نحن لم نصل لاتفاق، وإثيوبيا رفضت التوقيع. نعم هذا صحيح، ولكن هناك تطوراً مهماً أيضاً، وهو أن الموقف الأمريكي وموقف البنك الدولي يقفان إلى جانبنا، وسيفيدنا ذلك إذا ادلهمت الأمور وتفاقمت.

النقطة الثانية أن سلامة موقفنا التفاوضي، ستجعل إثيوبيا مكشوفة عالمياً، ولن تكون قادرة عالمياً على الاستمرار في صورة الدولة الفقيرة المغلوبة على أمرها! سيقول البعض: وما قيمة كل ذلك طالما أن إثيوبيا لم توقّع الاتفاق؟!

الإجابة هي أن انسحاب إثيوبيا، يجعل موقف مصر الأخلاقي والقانوني جيداً جداً. ويعطي لها الحق في اتخاذ أي إجراءات أخرى للمحافظة على حقوقها، طالما أن إثيوبيا رفضت الاتفاق الناتج عن التفاوض طوال سنوات طويلة.

للولايات المتحدة مصالحها الخاصة، وعلاقتها بإثيوبيا جيدة جداً، وهي نقطة الارتكاز الأمريكية في القارة الإفريقية، وبالتالي حينما نتمكن من استمالة الموقف الأمريكي لصالحنا ــ حتى الآن ــ فهو أمر جيد جداً.

سيسأل البعض: وما المتاح لنا بعد كل ذلك.. هل نضع أيدينا على وجوهنا وننتظر أن تتكرم إثيوبيا وتقر بحقوقنا؟

الإجابة أن الأمر شديد التعقيد، وكان الله في عون المفاوض وصانع القرار المصري، وهو يبحث في أفضل الخيارات المتاحة، التي تحقق المصالح المصرية، وفي نفس الوقت لا تجعلنا نخسر إلا القليل باعتبار أن هناك خسارة في كل الأحوال للأسف!