«تركيا تخوض نضالاً مصيرياً وتاريخياً من أجل حاضرها ومستقبلها»! من يسمع هذه العبارة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأسبوع الماضي، يتخيل أن هناك احتلالاً أجنبياً لبعض الأراضي التركية، وأنه أعلن التعبئة العامة لصد هذا العدوان!
لكن حينما نعرف أن أردوغان قال هذه العبارة قبل أيام قليلة لأن قوات الجيش السوري مارست حقها الطبيعي في محاولة تحرير أراضيها من الميليشيات والتنظيمات المسلحة المدعومة من تركيا، فإن الأمر ينقلب فوراً إلى ما يشبه الكوميديا السوداء!
غالبية تصرفات أردوغان تجاه المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، لا تندرج إلا في باب العبث والكوميديا السوداء.
والتطورات المتسارعة في إدلب السورية، قبل أيام خير دليل على ذلك وخصوصاً ما أعلنه أردوغان يوم السبت الماضي خلال كلمة ألقاها في اسطنبول. هو قال إنه اتصل بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقال له: ماذا تفعلون هناك في سوريا، إذا كنتم تريدون إنشاء قاعدة عسكرية لكم ذلك، لكن ابتعدوا عن طريقنا واتركونا وحدنا مع النظام!
انتهى كلام أردوغان الغريب والعجيب، لأنه يتحدث عن سوريا، كأنها إحدى ضيعاته الخاصة.
هو لا يريد أن يصدق أن هناك حكومة تعترف بها الأمم المتحدة، حتى لو اختلف بعضنا معها.
روسيا موجودة في سوريا بدعوة من هذه الحكومة السورية، ولكن من الذي دعا تركيا إلى سوريا؟!
أردوغان أجاب عن هذا السؤال إجابة كوميدية عبثية أيضاً حينما قال: «لكل من يتساءل حول أسباب وجودنا في إدلب، أقول، لم نذهب هناك بناء علی دعوة الأسد، إنما تلبية لدعوة الشعب السوري، وليس لدينا نية لترك المنطقة طالما يريد الشعب السوري منا البقاء هنا»!
السؤال الموجه لأردوغان، ومن الشعب السوري الذي دعاكم للبقاء في سوريا؟!
الشعب السوري لم يفوض أو ينتخب ممثلين له لكي يدعو أي طرف للدخول إلى أرضه، الجميع جاء من كل مكان، وصال وجال في سوريا قتلاً وتدميراً وخراباً.
اللعبة توشك على نهايتها في سوريا. ولم يبقَ إلا الصراع على إدلب. وفي تفاهمات أستانا وسوتشي عام ٢٠١٨، تم الاتفاق على إقامة منطقة خفض التصعيد في إدلب، لتستوعب المعارضين شرط أن يسلموا أسلحتهم الثقيلة، ولكن تركيا لم تنفذ تعهداتها لروسيا.
وانتهى الأمر عملياً إلى أن «هيئة تحرير الشام» أو النصرة أو القاعدة، ومعها فصائل متشددة أخرى سيطرت على المحافظة وريفها. وعملياً أيضاً اكتشف الجميع، أن هذا التنظيم المصنف إرهابياً من الأمم المتحدة، هو الذراع العسكرية لرجب طيب أردوغان، يستعمله لتنفيذ مخططاته. أردوغان حلم بقيادة إمبراطورية كبرى تبدأ من اسطنبول وتمر بسوريا ومصر وليبيا وتونس والمغرب والسودان، ولكن سقوط دولة الإخوان في مصر في ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وجه ضربة قاصمة لهذا المشروع، وهذا هو السبب الذي يجعل أردوغان يكن كراهية مستمرة ومحمومة لمصر ونظامها، ربما أكثر من بعض أعضاء جماعة الإخوان أنفسهم!
يعرف أردوغان أنه لا أحد دعاه لدخول سوريا، باستثناء فلول جماعة الإخوان وبقية التنظيمات الإرهابية، التي اندحرت من كل المنطقة، ولم يبقَ لها سوى جيوب قليلة في إدلب السورية وطرابلس الليبية.
أي عاقل يعرف أن من حق الحكومة السورية استعادة إدلب، لأن من يتحكمون فيها مجموعة من الإرهابيين الذين صاروا أدوات في يد أردوغان وغيره. والمأساة الحقيقية أن أردوغان استغل مأساة اللاجئين السوريين ثم حولها إلى أداة لابتزاز الأوروبيين منذ سنوات، حينما اتفق معهم على منع تدفق اللاجئين لأوروبا مقابل مليارات اليوروهات وتسهيلات في تأشيرة شينجن.
وحينما صمتت أوروبا إزاء تدخله الفج الأخير في إدلب قام بفتح الحدود البرية مع اليونان، أمام الآلاف ممن يرغبون في الهجرة غير الشرعية، سواء كانوا من السوريين أو الأفغان أو غيرهم.
أردوغان يلعب الآن على كل الحبال الممكنة والمستحيلة، وزعم أنه دمر منشأة كيماوية في إدلب، حتى يقول للإسرائيليين والأمريكيين أنا معكم، وفي نفس الوقت يقول لكل الإرهابيين: أنا لم أتخلَّ عنكم، ويطلب النجدة من أمريكا وحلف الأطلسي، بحجة أنه يواجه روسيا! ولكن هذا الحلف لم يقدم له حتى الآن سوى التأييد اللفظي والمعنوي.
أردوغان انقلب بدرجة كاملة عن الصورة التي كان عليها، حينما صعد للحكم في أوائل الألفية الجديدة. كان يقول إنه حقق سياسة صفر أو زيرو مشاكل مع كل جيرانه، واليوم صار يعادي الجميع، جيرانه ومن كانوا حلفاءه في أوروبا وأمريكا رافعاً شعار «زيرو حلول» مع الجميع!