إلا أننا لم نتفق على الاختلاف

ت + ت - الحجم الطبيعي

«هل طلبوا منك أن تسأل أسئلة معينة، أو حذفوا لك بعض الأسئلة؟».. بهذا السؤال بادرني الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، عليه رحمة الله، قبل أن ألقي عليه أسئلتي وأنا أستعد لإجراء مقابلة معه.

قال هذا وهو ينظر إلى وزير الإعلام المصري الأسبق صفوت الشريف، الذي كان يقف قريباً منا لمتابعة الحوار. يبدو أن السؤال قد فاجأني أنا أكثر مما فاجأ الوزير الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة وهو ينظر ناحيتي. أجبت وقد بدا عليّ شيء من الارتباك: «إطلاقاً يا فخامة الرئيس».

كنت صادقاً في ردي، لم أكن أجامل الوزير أو أتجنب إحراجه أمام رئيس الجمهورية، لأن هذا هو ما حدث فعلاً، فقد زرت الوزير في مكتبه قبل إجراء المقابلة بأيام، ولم يتطرق الحوار بيننا إلى تفاصيل الأسئلة التي أنوي طرحها، وقد كان بعضها محرجاً لأنه يتعلق بعلاقة مصر مع جيرانها، وإلى الخلافات التي كانت قائمة مع زعماء دول عربية أخرى. التفت إليّ الرئيس مرة أخرى قائلاً: «إذا كانوا قد طلبوا منك عدم السؤال عن أشياء معينة فلا تنفذ ما طلبوه».

حدث هذا في منتصف شهر ديسمبر عام 1987م، بعد شهر تقريباً من القمة العربية الطارئة التي عقدت بالعاصمة الأردنية عمّان في 8 نوفمبر من العام نفسه، وجاء ضمن قراراتها أن «العلاقات الدبلوماسية بين أي دولة عضو في الجامعة العربية وبين مصر عمل من أعمال السيادة، تقررها كل دولة بموجب دستورها وقانونها، وليست من اختصاصات الجامعة العربية».

هذا القرار بصيغته هذه ألغى القرارات التي كانت قد اتخذتها القمة العربية التي عقدت بالعاصمة العراقية بغداد في شهر نوفمبر عام 1978م، على أثر الزيارة التي قام بها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى القدس، وقيامه بتوقيع اتفاقيات «كامب ديفيد» مع إسرائيل.

كما ألغت القرارات التي اتخذها الرؤساء العرب أثناء اجتماعهم ببغداد عام 1979م، والتي نصت على نقل مقر الجامعة العربية من مصر إلى تونس، ومقاطعة مصر وتعليق عضويتها في الجامعة لحين زوال الأسباب.

هذه المقاطعة ظلت قائمة إلى ما بعد اغتيال الرئيس السادات في حادث المنصة عام 1981م، حتى جاءت قرارات قمة عمان التي تركت قرار إعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر لكل دولة، معتبرة إياه خارج اختصاص الجامعة!

كان الشيخ زايد، عليه رحمة الله، قد استبق قرارات قمة عمّان، وصرح لجريدة «الرأي العام» الكويتية بأنه سيقوم بإعادة العلاقات مع مصر قبل صدور قرار القمة، وقرر، عليه رحمة الله، أن يقوم بزيارة رسمية إلى مصر.

في هذه الأجواء سافرت إلى القاهرة لإجراء مقابلة تلفزيونية مع الرئيس حسني مبارك، وكنت وقتها نائباً لمدير عام تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من أبوظبي، تمهيداً للزيارة التي تمت في شهر مارس من عام 1988م، وكانت زيارة تاريخية استقبلت خلالها الرئاسة والشعب المصري الشيخ زايد، عليه رحمة الله، استقبالاً لم أشهد له مثيلاً في أي بلد آخر على مدى السنوات التي قمت خلالها بتغطية زياراته الرسمية، ومشاركاته في مؤتمرات القمة العربية والخليجية، والتي تقرب من 15 عاماً، كانت حافلة بأحداث غيرت مجرى تاريخ المنطقة كلها.

قمت بإجراء اللقاء الذي استغرق 80 دقيقة، تحدث خلاله الرئيس مبارك عن علاقته بالشيخ زايد، عليه رحمة الله، فقال إن الاتصالات بينهما لم تنقطع طوال سنوات المقاطعة العربية لمصر، وإنها قديمة تمتد إلى ما قبل حرب أكتوبر 1973م، كما تحدث عن العلاقة التي تربطه بصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد، الذي كان وقتها ولياً لعهد إمارة أبوظبي، وتطرق إلى جميع القضايا المطروحة على الساحة بصراحة تامة ودون مجاملة أو التفاف على الحقائق.

وقال إن أبواب مصر مفتوحة لجميع العرب الذين يريدون إعادة علاقاتهم معها، دون المساس بسيادة مصر أو التدخل في قراراتها أو فرض شروط عليها.

وتم عرض المقابلة في كل من الإمارات ومصر، وكانت تصريحات الرئيس مبارك المانشيتات الرئيسية للصحف الإماراتية والمصرية في اليوم التالي لعرضها، لأنها تضمنت رسائل مهمة تؤكد التزام مصر بمعاهدة الدفاع العربي المشترك، وحرصها على التضامن العربي بعيداً عن الشعارات، وترحيب الرئيس مبارك بالحوار مع الرئيس السوري السابق حافظ الأسد.

وهي تصريحات مهمة في تلك الأجواء التي كانت سائدة في المنطقة العربية في تلك الفترة. وقد أعادت قناة «دبي زمان» بث المقابلة أكثر من مرة الأسبوع الماضي، بعد الإعلان عن وفاة الرئيس مبارك، عليه رحمة الله.

من العبارات التي كررها الرئيس مبارك خلال تلك المقابلة قوله إن الاختلاف بين العرب وارد، تماماً مثلما يختلف الأخوة داخل البيت الواحد، لكن المهم هو أن نتفق على الاختلاف. وقد رحل الرئيس مبارك عن دنيانا تاركاً للتاريخ الحكم عليه وعلى عهده.

ورغم مرور أكثر من 30 عاماً على تلك المقابلة، ورغم الأزمات والمحن التي مرت بها الأمة العربية، إلا أننا لم نتفق على الاختلاف حتى اليوم. لقد كانت المرحلة التي تم خلالها إجراء المقابلة حافلة بالخلافات العربية، إلا أنها بالمقارنة مع ما نعيشه اليوم تستحق أن نطلق عليها «الزمن الجميل» الذي نفتقده.

 

 

Email