تأرجح بين تفاؤل وتشاؤم

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المرجح أن هناك قراراً قد اتخذ تحت جنح الظلام منذ الأول من أكتوبر المنصرم للقضاء على الانتفاضة التي اندلعت بالعراق في ذلك اليوم.

والتي شدت أنظار العالم إلى ساحات وشوارع المدن العراقية بقوتها وعنفوانها وبحجم ما دفعته من تضحيات. فالطبقة الحاكمة والجار الشرقي الذي يقف وراءها غير مستعدة لتقديم تنازلات أو التراجع أمام الشارع الثائر، فهي لم تتورع حتى الآن من استخدام القوة المفرطة، وعلى استعداد حين يحين الوقت للذهاب إلى نهاية المطاف.

فهي عازمة على معالجة الأزمة الكبيرة التي يمر بها العراق وفق رؤاها وطرائقها التي أصبحت مرفوضة، في الوقت الذي يعلن المنتفضون موقفهم الرافض بالتساوم على مبادئه، فالجيل الجديد مصمم على التغيير مهما كان الثمن الذي يدفعه لذلك.

الانتفاضة لا ترى في الإجراءات المتخذة في التعامل معها نوايا بريئة بل استعدادات للضربة المقبلة، وتهيئة للوجستياتها عسكرياً وسياسياً. هناك مبررات عدة ترجح الذهاب نحو مشهد الصدام: أولها تفاقم الصراع دون أن تحصل الانتفاضة على مكسب يذكر، فإسقاط حكومة عبد المهدي لا يحقق شعارها الواسع والعميق في دلالاته «نريد وطناً»، فالبديل المقترح والآليات التي استخدمت لاختياره مرفوضة من قبل الانتفاضة لتعارضه مع شعارها.

الخلل في موازنات القوة بين الطرفين، فالدولة التي يفترض أن تقوم بحمايتها وفق الدستور قد أضعفت بل اختطفت من قبل الميليشيات المدججة بالسلاح التي أصبحت قوة طاغية لا أحد يقوى على مواجهتها مقابل جمهور سلمي لا يحمل غير العلم العراقي.

وثالثها التحول الذي طرأ على استراتيجية بعض التيارات السياسية التي كانت مصطفة، بشكل ما، لصالح الانتفاضة وانحيازها للمعسكر المعاكس. أما رابعها فهو ضعف الموقف الدولي ولا مبالاته إزاء المجازر التي ارتكبت بحق المنتفضين الذين ما انفكوا يطالبون الأسرة الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة بالتدخل لحمايتهم.

الطبقة المنتفعة من العملية السياسية ومن يقف خلفها لا تسمح بتغيير قواعد اللعبة التي تسعى الانتفاضة إلى إسقاطها، لأن هناك ما يشير إلى بوادر «نهضة» واعية تسقط الخطوط الحُمر والتابوهات التي أغلقت العقول، وحولتها إلى قطيع لا يشعر بحجم الظلم والقهر الذي يتعرض له ممن يضع العمامة ويردد التعاويذ ويوسع مساحة المقدسات المزعومة.

فالنهضة الحضارية الحقيقية للشعوب لا تقوم على مبدأ إسقاط الحكام أو تبديل الحكومات أو تغيير طبيعة الأنظمة السياسية تحت شعارات براقة شعبوية مثيرة للحماس، بل بإحداث نقلات نوعية في طبيعة الأطر الفكرية عبر تطوير ما هو سائد في المجتمع من آراء ومفاهيم ومناهج ورؤى ترسم معالم التفكير في المجتمع، لتخرجه من دائرة القطيع المطيع إلى دائرة الفرد الحر المستقل فكرياً الذي يشعر بمسؤولياته إزاء آمال وأحلام أبناء جلدته.

عصر الانتفاضة الذي نشهده منذ ما يزيد على أربعة شهور، «حقبة» زمنية شديدة الثراء والأهمية في تأريخ العراق الحديث، ستحظى باهتمام الباحثين وتستوقفهم، سواء نجحت في تحقيق أهدافها أم لم تنجح، فهي صحوة فكرية ومجتمعية وسياسية حافلة بالسير والدلالات والصور المشرقة رغم الدماء التي تخضبها.

في ساحات الانتفاضة هناك بُنى فكرية وسلوكية تتشكل وتُرسى على أسس قناعة «جمعية» بانتهاج مسار يفضي لصناعة هوية وطنية جديدة، تثري وتعزز مبادئ العيش المشترك، وترفض بشكل تام رؤى الطبقة السياسية الحاكمة البعيدة عن روح العصر.

فالخراب على مختلف الصعد الذي أحدثته سياسات هذه الطبقة التي شرذمت المجتمع سواء عن قصد أو جهل، أو تنفيذاً لاستراتيجيات الغير، أكبر كثيراً من أن تقف أية أطروحات لتبرير وشرعنة حدوثه. الانتفاضة تسعى لتحقيق دولة المواطنة لا دولة التوافق، دولة شركاء يتساوى فيها حجم الحضور لا دولة فرقاء تفاوض على حصصها.

جملة عوامل أنضجت إرهاصات هذه النهضة أبرزها الوعي لدى الشباب الذي تفتح على رؤية البون الشاسع في مستوى المعيشة التي يتمتع بها مجايليهم في الدول الديمقراطية، وبين ما يتمتعون به من بؤس وفقر وقهر وتهميش وإهمال على مدى سبعة عشر عاماً في بلد ثري، تزخر الدولة التي صنعتها الطبقة الحاكمة بالفساد المقولب عقائدياً بأطر «المقدس»، وهي خصوصية تميز الانتفاضة العراقية عن غيرها في حقبة الربيع العربي.

* كاتب عراقي

 

Email