مرة أخرى.. التواصل الاجتماعي ليس إعلاماً

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذه ليست المرة الأولى التي أكتب فيها أن أدوات التواصل الاجتماعي ليست إعلاماً، فقد سبق لي أن كتبت هذا الرأي واضعاً أسبابه في أكثر من مقال، كما ذكرته في برامج تلفزيونية متعددة.

هذه المرة فإن مناسبة انعقاد «التجمع الإعلامي العربي من أجل الأخوة الإنسانية» شهدت تجمعاً كبيراً للإعلاميين العرب من كل الأقطار العربية بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لتوقيع وثيقة «الأخوة الإنسانية» من قبل شيخ الجامع الأزهر ورئيس مجلس حكماء المسلمين، والبابا فرانسيس بابا الفاتيكان.

كان السؤال المطروح هو ماذا يفعل الإعلام العربي إزاء هذه الوثيقة المهمة والتاريخية بين الممثلين الدينيين لأكبر جماعتين دينيتين في العالم: الكاثوليك والمسلمين؟ وكان طبيعياً عندما يلتقي هذا الجمع، ويحضر محاضراً، مناقشاً في خمس من ورش العمل التي تناولت موضوعات مختلفة انتهت بتوقيع وثيقة من عشرين بنداً تحدد واجبات الإعلام العربي تجاه الوثيقة خلال المرحلة المقبلة.

ما كان مدهشاً رغم المناسبة والمهمة الجليلة أنهما جاءا في وقت بدا فيه عدد من الإعلاميين العرب في حالة من الشك في الذات وقدراتها إزاء العمل الإعلامي ذاته.

السبب الأول لذلك أنه كانت هناك حالة من «الاندهاش التكنولوجي» التي تجعل الإعلامي يردد تفاصيل التطورات التكنولوجية الراهنة من أول ظهور الكمبيوتر الشخصي، والإنترنت، وأخيراً الهاتف الجوال الذي هو كمبيوتر و«إيميل» وأداة اتصال.

أكثر ما أثار الشك والقلق كان أدوات التواصل الاجتماعي التي باتت تسبق كل حالات وإعلام ما بات يسمى «الإعلام التقليدي» أي الذي يشمل الصحافة المطبوعة والتلفزيون.

السبب الثاني أن الإعلام بات يبدو أنه مجبر على مواجهة نوع من «مسابقات الجمال» التي لابد فيها من فوز واحدة فقط، ما بين ما هو «تقليدي» وما هو «حديث» ومواكب للعصر وسريع والمسلح بأسلحة الإثارة التي تواكب رغبات جماهير لم يعد يهمها من الإعلام إلا كل ما هو مثير.

قالت إعلامية إن المعضلة باتت أن الجمهور الذي يتلقى الإعلام بات يفضل مشاهدة حالة شجار مميت بين شخصين على مشاهدة عرض للون من ألوان المعرفة. ببساطة بات الجمهور لا يقبل إلا على كل ما هو ممتلئ بالتوابل الحارة، وليس على الخضار المسلوق حتى ولو كان صحياً.

هذه الحجج عرضت لحالات من ارتجاج الثقة بالنفس، وبالجمهور، وبتصور أن ما نشاهده حالياً جديد تماماً على الساحة الإعلامية. فالحقيقة هي أن الجمهور لم يكن دائماً واحداً، فقد كان هناك «العامة» أو الجمهور العام، كما أن هناك «النخبة» وكلاهما كان له دائماً خطابه الخاص الذي يتناسب مع تعليمه وقدراته وخبراته.

الإعلام كان دوماً يقدم «الطبق» الذي يناسب الفئات المختلفة في المجتمع. ولم يكن المجتمع مفتقراً لأدوات التواصل الاجتماعي، فقد كانت الزيجات ممتلئة بأحاديث الحضور، أما الجنازات فكانت حافلة بالنميمة.

التكنولوجيا فعلت ما كانت تفعله في كل الأحوال، وهي أنها تنفخ فيما كان حديثاً ونميمة اجتماعية أو سياسية، وتجعلها موضع التقاسم بين أعداد أكبر من البشر. باتت الفرصة أكبر لكي يكون التواصل الاجتماعي خالياً من المعلومات وتحرير الحقيقة وإجلاء مكنوناتها، ومحروماً من تفسير الحقيقة بالربط بين مكوناتها، ومنعدم البحث عن إجابات للأسئلة التي يطرحها التفكير في موضوع أو قضية.

وهكذا لا يصير التواصل الاجتماعي على كثافة حركته وسرعة انتقالها وذيوعها نوعاً من الإعلام، ويصلح دائماً أن يكون موطناً لاستخدامات «الكتائب الإلكترونية» التي تدسها أحزاب وتيارات هدامة، وموطناً للشائعات والأخبار الكاذبة.

باختصار فإن «التواصل» محروم من «المعرفة المنظمة» التي يوفرها الإعلام الذي هو نقل المعرفة بالشأن العام إلى الجماهير الواسعة المهتمة بأمر يؤثر فيها جميعاً سواء للإشباع الثقافي أو التطور الاقتصادي أو الممارسة السياسية.

وسائل التواصل الاجتماعي لا تهتم كثيراً بالبحث لا عن إجابة لأسئلة معلقة، ولا النظر في أمر «السياسات» المناسبة لحل معضلة قومية، فهذا ليس من مهامها، ولا وظائفها، وإنما هي جادة في تصوير الإحباط أو الغضب العام وكلاهما ليسا صوراً للتفكير وإنما لإعلان المواقف، وإظهار الغرائز، كلها أنواع من التعبير عن موقف الرأي العام في لحظة عارضة لكي تكون توجهاً أو Trend، ولكنه ليس معرفة، أو إعلاماً. تلك هي القضية!

 

 

Email