قبل عشرة أيام من غروب شمس العام 2019، أعلنت المفوضية الأوروبية عن اشتراط التوقيع على وثيقة بنبذ «الإرهاب»، من جانب أية مؤسسة فلسطينية تتلقى تمويلاً اتحادياً أوروبياً. الوثيقة ذكرت بالاسم تنظيمات وأطرافاً بعينها، يحظر أن تطالها أوجه الدعم.

وبهذا الإجراء المفاجيء، دخل الأوروبيون مع شركائهم الأمريكيين في دائرة التمويل غير النزيه؛ المعني بمطاردة أية أنشطة مقاومة بحيثية أو أخرى للاحتلال الإسرائيلي، وتأكدنا مجدداً من النيات والأجندات الكامنة وراء مداخلات القوى الغربية المانحة؛ التي لا تبشر بخير تجاه المصير الفلسطيني عموماً.

وبالنظر إلى حجم العجز الاقتصادي والخدماتي الكبير الذي قيل إنه سيلحق بالجهات الفلسطينية المتلقية للعون، في حال رفض الانصياع للوثيقة الأوروبية المنكودة، فإننا إزاء ظاهرة لافتة.

موجزها أن أكثر من ثلاثمائة مؤسسة طوعية مدنية محلية وخارجية، تعمل في كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية وتتعامل مع مختلف الحاجات الخدمية الأساسية في فلسطين المحتلة، لم تتمكن من تشكيل شبكة أمان بديلة تقي المجتمع من غوائل ضغوط المانحين الرسميين، وتؤهله للحياة بقدر من الاستقلالية والعمل بقوة الدفع الذاتية.

تقديرنا، بصيغة أخرى، أنه لو كانت المنظومة المؤسسية ذات الطابع الخيري والمنزهة جدلاً عن الأهواء السياسية، تعمل بالكفاءة والطهرية بلا أهواء، لما جأر مجتمع الضفة وغزة بالشكوى من تداعيات التمويل الغربي المشروط.

لقد كان أداء هذه المنظومة أقل من المتوقع في وقت العسر والشدة. وللإنصاف لا تجوز المساواة بين كافة المؤسسات المعنية من حيث درجة القصور أو التقصير، لكننا نتحدث عن الحصاد النهائي الذي يصعب وصفه بالإيجابية وحسن الإنجاز.

وللمفارقة فإن عدداً كبيراً من هذه المؤسسات راح بدوره يشكو الفاقة وضيق ذات اليد أو بغلق أبوابه متعللاً بالتضييقات والشروط المجحفة. فيما منطق الأشياء كان يقضي بعكس ذلك. الشكوى في هذا السياق توحي بارتهان المؤسسات الشاكية من حيث مصادر التمويل أو قرارات الممارسة بالجهات الممولة.

لقد جاء حين استفسر فيه البعض عن جدوى ومغزى تزاحم المؤسسات الطوعية الخارجية وتغلغلها في تضاعيف المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، لا سيما بعد اندلاع الانتفاضة الأولى؟، وعن طبيعة العوائد الاقتصادية وتوابعها السياسية التي قد تنجم عن هذه الظاهرة؟، وعن المشروعات والقطاعات التي تحظى بالأولوية في هذا السياق، ومدى ملاءمتها الأهداف الفلسطينية العليا؟، وعن الموقف الإسرائيلي من هذا كله؟

يقول أحد اقتصاديي الضفة إنه قام بزيارات ميدانية لأربعة عشر مشروعاً أقامتها مؤسسات أجنبية طوعية، وثبت لديه باليقين فشل عشرة منها. ويشير خبير فلسطيني آخر إلى أن هذه المؤسسات «تتحدث عن أهداف تنموية ومع ذلك ليس ثمة ما يشير إلى صدقية هذا التوجه أو إلى صفة الاستقلال التي تدعيها لنفسها».

هذا التقويم السلبي عموماً لأداء المؤسسات الطوعية في الحالة الفلسطينية، شديدة الخصوصية والحاجة للعون من كل صوب وحدب، لا ينطوي على دعوة لاستئصال عمل هذه المؤسسات، أو نبذها من طموحات التطوير والتأهيل الاجتماعي والاقتصادي والخدمي على طريق الاستقلال.

ما نقصده باقتضاب هو ترشيد الظاهرة وإعادة النظر في أنماط نشاطها وتخليصها من وضعية الفوضى والانفلات والاستتباع السياسي، وذلك بإدراجها ضمن مشروع تنموي استقلالي وطني شامل.